الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (28- 30): {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}قلت: {تُقاة}: مصدر تَقَى، على وزن فَعَل، وله مصدران آخران: تُقّى وتَقِيَّة- بتشديد الياء-، وبه قرأ بعقوب، وأصله: تُقِيَة، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها. و{يوم}: ظرف، والعامل فيه: اذكر، أو اتقوا، أو المصير، أو تود، و{ما عملت}: مبتدأ، و{تود}: خبر، أو معطوف على {ما عملت} الأولى، و{تود}:حال.يقول الحقّ جلّ جلاله، لقوم من الأنصار، كانوا يُوالون اليهود؛ لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء}، أي: أصدقاء، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره، فلا تودوهم {من دون المؤمنين}؛ إذ هم أحق بالمودة، ففيهم مَنْدُوحة عن مولاة الكفرة، {ومن يفعل ذلك} الاتخاذ {فليس من} ولاية {الله في شيء}؛ إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه. قال الشاعر:والنُّوك- بضم النون-: الحُمْق.فلا تُوالوا الكفار {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أيْ: إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً، والبعد منهم بطناً، كما قال عيسى عليه السلام: (كن وَسَطاً وامْشِ جانباً). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا تَثْلُموه. وقال جعفر الصادق: إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني. اهـ. {ويحذركم الله نفسه} أي: يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، تقول العرب: احذرنا فلاناً: أي: ضرره لا ذاته، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة، {وإلى الله المصير}؛ فيحسر كل قوم مَن أحب.{قل إن تخفوا ما في صدوركم} من موالاة أعدائه، {أو تبدوه يعلمه الله}؛ فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر. وقدَّم في سورة البقرة الإبداء، وأخره هنا؛ لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر، وأخره في البقرة، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها، {ويعلم ما في السماوات وما في الأرض} فلا يخفى عليه شيء، {والله على كل شيء قدير}؛ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا، والآية بيان لقوله: {ويحذركم الله نفسه}؛ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات، فلا تجسروا على عصيانه، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة.{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} بين يديها تنتفع به، {وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً}، كما بين المشرق والمغرب، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم. {ويحذركم الله نفسه}، كرره للتأكيد وزيادة التحذير، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره، {والله رؤوف بالعباد} حيث حذرهم مما يضرهم، وأمرهم بما يقربهم، فكل ما يصدر منه- سبحانه- في غاية الكمال.الأشارة: لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة، ولا يتودد معه؛ فإن ذلك يقطعه عن ربه، ويصده عن دواء قلبه، وفي ذلك يقول صاحب العينية: إلا أن يتقي منهم تقية، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه، وقد حذَّر الصوفية من صحبة أرْبَع طوائف: الجبابرة المتكبرون، والقراء المداهنون، والمتفقرة الجاهلون، والعلماء المتجمدون؛ لأنهم مُولَعون بالطعن على أولياء الله، يرون ذلك قربة تُقربهم إلى الله.ثم قال: {ويحذركم الله نفسه} أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبة بقوله: {وإلى الله المصير} أي: إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال: {إن تُخفوا ما في صدوركم} من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، {أو تبدوه يعلمه الله}؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، {يوم تجد كل نفس} ما قدمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال: {ويحذركم الله نفسه} من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يتسطع، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم. .تفسير الآيات (31- 32): {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}قلت: قد تقدم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله: {يحبونهم كحب الله}. وقال البيضاوي هنا: المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه، بحيث يحملها- أي الميل- إلى ما يقربها إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وأن ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله، لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، فلذلك فُسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته، والحرص على مطاوعته. اهـ.وقوله: {فإن تولوا}: فعل ماض مجزوم المحل، ولم يدغمه البَزِّي هنا، على عادته في الماضي، لعدم موجبه.يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد لمن يدّعي أنه يحب الله ولا يتبع رسوله: {إن كنتم تحبون الله} كما زعمتم، {فاتبعوني} في أقوالي وأفعالي وأحوالي، {يحببكم الله} أي: يرضى عنكم ويقربكم إليه، {ويغفر لكم ذنوبكم} أي: يكشف الحجاب عن قلوبكم بغفران الذنوب ومحو العيوب، فيقربكم من جناب عزه، ويبوئكم في جِوار قدسه، {والله غفور رحيم} لمن تحبب إليه بطاعته واتباع رسوله.{قل أطيعوا الله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه، {والرسول} فيما يَسُنه لكم ويرغبكم فيه، {فإن تولوا} وأعرَضوا عنه، فقد تعرضوا لمقت الله وغضبه بكفرهم به؛ {فإن الله لا يحب الكافرين} أي: لا يرضى عنهم ولا يقبل عليهم، وإنما لم يقل: لا يحبهم؛ لقصد العموم، والدلالة على أن التولي عن الرسول كفر، وأنه بريء من محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.رُوِيَ أن نصارى نجران قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده، حباً لله وتعظيماً لله. فقال تعال: {قل} يا محمد: {إن كنتم تحبون الله} تعالى {فاتبعوني}... الآية. ولما نزلت الآية قال عبد الله بن أُبَيّ لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزل قوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول} الآية. وقال- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، ومن أَطَاعَ الإمامَ فَقدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله وَمَنْ عصَى الإمامَ فَقَدْ عَصَانِي».الإشارة: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم رُكن من أركان الطريقة، وشرط في إشراق أنوار الحقيقة، فمن لا اتباع له طريق له، ومن لا طريق له لا وصول له، قال الشيخ زروق رضي الله عنه: (أصول الطريقة خمسة أشياء: تقوى الله في السر والعلانية، واتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضرء، والرضى عن الله في القليل والكثير).فالرسول- عليه الصلاة والسلام- حجاب الحضرة وبَوَّابُها، فمن أتى من بابه؛ بمحبته واتباعه، دخل الحضرة، وسكن فيها، ومن تنكب عنها طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول القائل:وقال في المباحث: فمن ادّعى محبة الله أو محبة رسوله، ولم يطعهما، ولم يتخلق بأخلاقهما، فدعواه كاذبة، وفي ذلك يقول ابن المبارك: ثم ذكر الحق تعالى بيان نشأة عيسى عليه السلام، وبيان أصله ونشأة أمه، توطئة للكلام مع النصارى والرد عليهم في اعتقادهم فيه. وقال البيضاوي: لما أوجب الله طاعة الرسل، وبيَّن أنها الجالبة لمحبة الله، عقَّب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً عليها. .تفسير الآيات (33- 37): {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}قلت: {ذرية}: حال، أبو بدل من الآلين، أو من نوح، أي: أنهم ذرية واحد متشعبة بعضها من بعض. و{إذ قالت}: ظرف لعليم، أو بإضمار اذكر. و{محرراً}: حال، والتحرير: التخلص، يقال: حررت العبد، إذا خلصته من الرق، وحررت الكتاب، إذا أصلحته وأخلصته، ولم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاح، ورجل حُر، أي: خالص، ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحُر، أي: الخالص من الحمأة. وقوله: {وإني سميتها مريم}: عطف على {إني وضعتها}، وما بينهما اعتراض، من كلامها على قراءة التكلم، أو من كلام الله على قراءة التأنيث.يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله اصطفى آدم}؛ بالخلافة والرسالة، {ونوحاً}؛ بالرسالة والنِّذَارة، {وآل إبراهيم}؛ بالنبوة والرسالة، وهم: إسحاق، ويعقوب والأسباط، وإسماعيل، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة. {وآل عمران}، وهم موسى وهارون- عليهما السلام- وهو عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب، أو المراد بعمران: عمران بن أشهم بن أموي، من ولد سليمان عليه السلام، وهو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل: المراد عمران بن ماثان، أحد أجداد عمران والد مريم. وإنما خصّ هؤلاء؛ لأن الأنبياء كلهم من نَسْلهم. وقيل: أراد إبراهيم وعمران أنفسهما. وآل مقحمة، كقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ} [البَقَرَة: 248] أي: موسى وهارون، فقد فضل الحقّ- جلّ جلاله- هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية {على العالمين} أي: كلاً على عَالَمِي زمانه، وبه استدلّ على فضلهم على الملائكة. حال كونهم {ذرية} متشعبة {بعضها من} ولد {بعض} في النسب والدين، {والله سميع} لأقوال العباد وأعمالهم، {عليم} بسرائرهم وعلانيتهم، فيصطفي من صفا قوله وعمله، وخلص سره، للرسالة والنبوة.ثم تخلًّص لذكر نشأة مريم، توطئة لذكر ولدها، فقال: واذكر {إذ قالت امرأة عمران} وهي حنة بنت فاقوذا، جدة عيسى عليه السلام: {ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً} لخدمة بيت المقدس، لا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة، {فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}، وكان المحرر عندهم، إذا حُرر، جُعل في الكنيسة يقوم عليها وينكسها، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، ثم يُخَيَّر، فإن أحبَّ أقام أو ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلا الغلمان؛ لأن الجارية لا تصلح للخدمة؛ لما يصيبها من حيض، فحررت أمُّ مريمَ حمْلَها تَدْرِ ما هو.وقصة ذلك: أن زكريا وعمران تزوجا أختين، فتزوج زكريا أشياعَ بنت فاقوذا، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة، وكانت حنة عاقراً لا تلد، فبينما هي في ظل شجرة، بصُرت بطائر يطعم فرخاً. فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت الله تعالى، وقالت: اللهم لك علي، إن رزقتني ولداً، أن أتصدق به على بيت المقدس، يكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم، فهلك عمران، وحنة حامل بمريم، {فلما وضعتها} أي: النذيرة، أو ما في بطنها، قالت: {ربِّ إني وضعتها أنثى}، قالت ذلك تحسّراً وتحزناً إلى ربها، لأنها كانت ترجوا أن تلد ذكراً يصلح للخدمة، ولذلك نذرته.قال تعالى: {والله أعلم بما وضعت}، تعظيماً لموضوعها وتنويهاً بشأنها، أو من كلامها- على قراءة التكلم- تسلية لنفسها، أي: ولعل لله فيه سرّاً، قال تعالى: {وليس الذكر كالأنثى} أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، أو من كلامها، أي: وليس الذكر والأنثى سيان فما نذرتُ. ثم قالت: {وإني سميتها مريم} راجية أن يطابق اسمُها فعلها، فإن مريم في نعتهم في العابدة الخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُكَ من نساءِ العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم».ثم قالت حنة أم مريم: {وإني أعيذها بك} أي: أحصنها بك {وذريتها من الشيطان الرجيم} أي: المرجوم بالشهب، أو المطرود، وفي الحديث: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَد فَيَسْتَهِلُّ مِنْ مَسِّهِ، إلاَّ مَرْيَمَ وابْنهَا» ومعناه: أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود، بحيث يتأثر به، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة، قلت: وكذا الأنبياء كلهم، لا يمسهم لمكان العصمة. والله أعلم.{فتقبلها ربها} أي: رَضِيَها في النذر مكان الذكَر، {بقبول حسن} أي: بوجه حسن، وهو إقامتها مقام الذكر، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسِّدانة، رُوِي: أن حنة لما ولدتها لفَّتْها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها، فأنها كانت ابنة إمامهم، وصاحب قربانهم، فإن (بني ماثان) كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فأبوا إلا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريا- أي: علا- على وجه الماء، ورسبت أقلامهم، فأخذها زكريا.{وأنبتها} الله {نباتاً حسناً} أي: رباها تربية حسنة، فكانت تشب في اليوم ما يشب المولود في العام، {وكفلها زكريا} أي: ضمها إليه وقام بأمرها. وقرأ عاصم- في رواية ابن عياش- بشدِّ الفاء، أي: وكفَّلها اللّهُ زكريا، أي: جعله كافلاً لها وحاضناً. رُوِيَ: أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتاً، واسترضع لها، فلما بلغت، بنى لها محراباً في المسجد، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.{كلما دخل عليها زكريا المحراب}؛ ليأتيها بطعامها، {وجد عندها رزقاً} أي: فاكهة في غير حينها، يجد فاكهة الشتاء في الصيف، وبالعكس، {قال يا مريم أنى لك هذا} أي: من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه، والأبواب مغلقة عليك؟ {قالت هو من عند الله} فلا يُستبعد، قيل: تكلمت صغيرة، وقيل: لم ترضع ثدياً قط، خلاف ما تقدم، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة.ثم قالت: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} أي: بغير تقدير، أو بغير استحقاق تفضلاً منه، وقوله: {كلما}: يقتضي التكرار، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يَذَرْ تَعهُّدهَا، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها، بل كان يتفقد حالها كل وقت، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعاً، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائماً وألا يظهر، فما كان زكريا معتمداً على ذلك، فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدد السؤال بقوله: {يا مريم أنى لك هذا}، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمسن فإنه لا واجب على الله- سبحانه- قاله القشيري.رَوى جابر بنُ عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم الطعام، فقام في منازل أزواجه، فلم يُصِبْ عندهم شيئاً، فأتى فاطمة فقال: «يا بُنيةُ، هل عندك شيء؟» فقالت: لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، بعثت إليها جارتُها برَغِيفَيْن وبِضْعَة لَحْم، فبعثت حَسَناً وحُسَيْناً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء، فكشفت له الجفنة، فإذا الجفنة مملوءة خُبْزاً ولَحْماً، فَبُهِتَتْ، وعرفت أنَّهَا بَرَكَةٌ مِن اللهِ تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين لك هذا يا بُنَيْةُ؟» قالت: {من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}، فحمد الله تعالى، وقال: «الحمْدُ للّهِ الَّذِي جَعلَك شَبِيهَةً بسَيِّدَةِ بَنِي إسْرَائِيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً قالت: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}» ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عَليٍّ رضي الله عنه. ثم أكل أهلُ البيت كلهم، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقيت الجَفْنة كما هي، فأَوْسَعَتْ علَى الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً. انتهى.الإشارة: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل؛ لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره، وجددوه بعد خمود أسراره، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية، بحيث يجدد للناس دينهم، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه.وفي الحديث: «إنَّ الله يَبْعَثُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذه الأمة دِينَهَا» قال الحريري: مات الحسن البصري عشية جمعة- أي: بعد زوالها- فلما صلّى الناس الجمعة حملوه، فلم يترك الناس صلاة العصر في مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام، إلا يوم مات الحسن، واتبع الناس جنازته، فلم يحضر أحد في المسجد صلاة العصر، قال: وسمعت منادياً ينادي: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}، واصطفى الحسن على أهل زمانه. قلت: والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوّف، وتكلم فيه وهذبه. قال في القوت: وهو إمامنا في هذا العلم- يعني علم التصوف.وقوله تعالى: {إذ قالت امرأة عمران}... الآية. كُلُّ من ذنر نفسه وحررها لخدمة مولاه، تقبلها الله منه بقبول حسن، وأنبت فيها المعرفة نباتاً حسناً، وكفلها بحفظه ورعايته، وضمها إليه بسابق عنايته، ورزقها من طُرَفِ الحكم وفواكه العلوم، مما لا يتحيط به العقول وغاية الفهوم، فإذا قال لنفسه: من أين لك هذا؟ {قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}. وأنشدوا:وقال القشيري: قوله تعالى: {فتقبلها ربها بقبول حسن}، يقال: منَ القبول الحسن أنه لم يطرح كَلَّهَا وشَغْلَهَا على زكريا، فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعاهدها بطعام وجد عندها رزقاً، ليعلَم العالمون أن الله- تعالى- لا يُلقى شغل أوليائه على غيره، ومن خدم وليّاً من أوليائه كان هو في رفق الولي، وهذه إشارة لمن يخدم الفقراء، يعلم أنه في رفقهم، لا أن الفقراء تحت رفقه. اهـ.قال أهل التفسير: فلما رأى زكريا ما يأتي لمريم من الفواكه في غير أوانها، قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها، قادر على أن يصلح زوجتي، ويهب لي ولداً على الكبر. فطلب الولد.
|