الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (2): قوله تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم- كما فعل نحو ذلك في غير آية، وكان قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام، ثم ذكر في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، أن الموت مشرع لابد لكل نفس من وروده؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال: {وآتوا اليتامى} أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم، وأصل اليتيم الانفراد {أموالهم} أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ- كما يأتي، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان.أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب! لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة، لأنه لا ناصر لهم، وقد يكونون ذوي رحم.ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال: {ولا تتبدلوا} أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية {الخبيث} أي من الخباثة التي لا أخبث منها، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان، فتهدم- جميع أمره {بالطيب} أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض، المعلية لقدر الإنسان؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص، فقال معبرًا بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب، فكيف إذا كان حرامًا ومن مال ضعيف مع الغنى عنه: {ولا تأكلوا أموالهم} أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان، مجموعة {إلى أموالكم} شرهًا وحرصًا وحبًا في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهًا على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي الأول {كان حوبًا} أي إثمًا وهلاكًا {كبيرًا}. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه، محترزا عن مساخطه، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف.فالنوع الأول: ما يتعلق بأموال اليتامى، وهو هذه الآية، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الإشفاق عليهم، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم}. اهـ..قال الألوسي: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه؛ وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارًا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي. اهـ..قال ابن عاشور: مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله. اهـ..قال الفخر: قال صاحب الكشاف: اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة، وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات.قال: وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره، زال عنه هذا الاسم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب، إما على القياس، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له.وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يتم بعد حلم» فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة، يعني إذا احتلم فإنه لا تجرى عليه أحكام الصغار.وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه، وفي بعض الروايات: أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد، ثم قال أبو بكر: واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة» وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة، قال الشاعر:فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير. اهـ.قال الفخر:نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220] قال أبو بكر الرازي: وأظن أنه غلط من الراوي، لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} [البقرة: 152] و{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فاشتد ذلك على اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وإن تخالطوهم فاخوانكم} فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.قال المفسرون: الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع ماله إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره» أي جنته، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثبت الأجر وبقي الوزر» فقالوا: يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده. اهـ.قال الفخر:احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين، قال لأن قوله: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن، شرط في وجوب دفع المال إليه، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية.أجاب أصحابنا عنه: بأن هذه الآية عامة، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة، ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] وبقوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} [النساء: 5] حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام. اهـ.قال الفخر:في تفسير هذا التبدل وجوه:الوجه الأول: قال الفراء والزجاج: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض، فتأكلوه مكانه.الثاني: لا تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين أنه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون، يجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، وطعن صاحب الكشاف في هذا الوجه، فقال: ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي.الرابع: هو أن هذا التبدل معناه: أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك، وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب. اهـ. .قال ابن عاشور: والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي، وهما استعارتان؛ فالخبيث المذموم أو الحرام، والطيّب عكسه وهو الحلال: وتقدّم في قوله تعالى: {يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا} في البقرة (168).فالمعنى: ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيدًا للأمر، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبدّل مجازًا والخبيث والطيّب كذلك، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال.وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي. اهـ..قال الفخر: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم}.فيه وجهان: الأول: معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها.والثاني: أن يكون إلى بمعنى مع قال تعالى: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} [آل عمران: 52] أي مع الله، والأول: أصح.واعلم أنه تعالى وإن ذكر الأكل، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح أن يؤكل، فثبت أن المراد منه التصرف، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.فإن قيل: إنه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها، فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم؟قلنا: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى، كان القبح أبلغ والذم أحق. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم، فينتسق في الآية أمر ونهيان: أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول.والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمّن (تأكلوا) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي: لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم.وليس قيد {إلى أموالكم} محطّ النهي، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقًا سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر، ذكر هذا القيد رعيًا للغالب، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين، ولذلك روي: أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة (220): {وإن تخالطوهم فإخوانكم} فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولًا للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ.وهما في فهم العرب نهيان، وليس هو نهيًا عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتًا بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة. اهـ.
|