الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جلّ جلاله، وإنما ظلموا أنفهسم كما نطق بذلك الكتاب {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعًا مباينًا للتفصيل، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك} أي الإيمان بالكل جمعًا وتفصيلًا والكفر بالكل {سَبِيلًا} [النساء: 150] أي طريقًا {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} المحجوبون {حَقًّا} [النساء: 151] بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط، وتوحيدهم زندقة وضلال، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس سره {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} وهم المؤمنون جمعًا وتفصيلًا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة {أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} من الجنات الثلاث {وَكَانَ الله غَفُورًا} يستر ذواتهم وصفاتهم {رَّحِيمًا} [النساء: 152] يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} أي علمًا يقينيًا بالمكاشفة من سماء الروح {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم بظلمهم وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم {ثُمَّ اتخذوا العجل} أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري النفس الأمارة {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} الرادعة لهم عن ذلك {وآتينا موسى سلطانًا مبينًا} [النساء: 153] وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} أي جعلناه مستوليًا عليهم {بميثاقهم} أي بسبب أن يعطوا الميثاق، وأشير بالطور إلى موسى عليه السلام، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب} أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الملوك {سُجَّدًا} [النساء: 154] خضعًا متذللين، وقوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} [النساء: 158] أشير به على ما ذكره بعض القوم والعهدة عليه إلى اتصال روحه عليه السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه السلام روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء بالله عز وجل، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدًا، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلهًا وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساوي:
{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات} عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث {أُحِلَّتْ لَهُمْ} بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع {وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله} أي طريقه الموصلة إليه سبحانه: {كَثِيرًا} [النساء: 160] أي خلقًا كثيرًا وهي القوى الروحانية {وَأَخْذِهِمُ الربا} وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} لما أنه الحجاب العظيم {وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل} [النساء: 161] أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع {لكن الراسخون في العلم} المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار {والمؤمنون} بالإيمان العياني حال كونهم {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية {والمقيمين الصلاة} على أكمل وجه {والمؤتون الزكواة} ببذل قوامهم في أصناف الطاعة {والمؤمنون بالله واليوم الآخر} أي بالمبدأ والمعاد، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162] لا يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ} [النساء: 163] الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] على قول: {رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ} بتجليات اللطف {وَمُنذِرِينَ} بتجليات القهر {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محى ذلك بأمداد الرسل {وَكَانَ الله عَزِيزًا} فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم {حَكِيمًا} [النساء: 165]فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة {لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} لتجليه فيه سبحانه: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي متلبسًا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.ومن هنا علم صلى الله عليه وسلم ما كان وما هو كائن {والملائكة} هم أصحاب النفوس القدسية {يَشْهَدُونَ} أيضًا لعدم احتجابهم {وكفى بالله شَهِيدًا} [النساء: 166] لأنه الجامع ولاموجود غيره، والله تعالى الموفق للصواب. اهـ. .تفسير الآيات (167- 169): قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}.مناسبة الآيات لما قبلها: قال البقاعي:ولما بين سبحانه أنه أقام الأدلة على صحته بالمعجزات، فصار كأنه شهد بحقيقته كان أنفع الأشياء اتباع ذلك بوصف من جحده في نفسه وصد عنه غيره زجرًا عن مثل حاله وتقبيحًا لما أبدى من ضلاله فقال: {إن الذين كفروا} أي ستروا ما عندهم من العلم بصدقه بما دل عليه من شاهد العقل وقاطع النقل، من اليهود وغيرهم {وصدوا عن سبيل الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه بأنفسهم وبإضلال غيرهم بما يلقونه من الشبه من مثل هذه وقولهم كذبًا: إن في التوراة أن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا تنسخ، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من أبناء هارون وداود عليهما الصلاة والسلام {قد ضلوا} أي عن الطريق الموصل إلى مقصودهم في حسده ومنع ما يراد من إعلائه {ضلالًا بعيدًا} أي لأن أشد الناس ضلالًا مبطل يعتقد أنه محق، ثم يحمل غيره على مثل باطله، فصاروا بحيث لا يرجى لهم الرجوع إلى الطريق النافع، لاسيما إن ضم إلى ذلك الحسد، لأن داء الحسد أدوأ داء؛ ثم علل إغراقهم في الضلال بإضلاله لهم لتماديهم فيما تدعوا إليه نقيصة النفس من الظلم بقوله وعيدًا لهم: {إن الذين كفروا} أي ستروا ما عندهم من نور العقل {وظلموا} أي فعلوا لحسدهم فعل الماشي في الظلام بإعراضهم وإضلالهم غيرهم {لم يكن الله} أي بجلاله {ليغفر لهم} أي لظلمهم {ولا ليهديهم طريقًا} أي لتضييعهم ما أتاهم من نور العقل ومنابذتهم؛ ثم تهكم بهم بقوله: {إلا طريق جهنم} أي بما تجهموا مَنْ ظلموه.ولما كان المعنى: فإنه يسكنهم إياها، قال: {خالدين فيها} أي لأن الله لا يغفر الشرك، وأكد ذلك بقوله: {أبدًا} ولما كان ذلك مع ما لهم من العقول أمرًا عجيبًا قال تعالى: {وكان ذلك} أي الأمر العظيم من كفرهم وضلالهم وعذابهم {على الله يسيرًا} أي لأنه قادر على كل شيء. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: اعلم أن هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم: لو كان رسولًا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود، وقوله: {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} وذلك لأن أشد الناس ضلالًا من كان ضالًا ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم إنه يبذل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات، فلهذا قال تعالى في حقهم: {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} ولما وصف تعالى كيفية ضلالهم ذكر بعده وعيدهم فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} محمدًا بكتمان ذكر بعثته وظلموا عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ}.واعلم أنا إن حملنا قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} على المعهود السابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد، لأنا نحمل الوعيد في الآية على أقوام علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر، وإن حملناه على الاستغراق أضمرنا فيه شرط عدم التوبة، ثم قال: {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ}.ثم قال تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} والمعنى أنه تعالى لا يهديهم يوم القيامة إلى الجنة بل يهديهم إلى طريق جهنم {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيرًا} انتصب خالدين على الحال، والعامل فيه معنى لا ليهديهم لأنه بمنزلة نعاقبهم خالدين، وانتصب {أَبَدًا} على الظرف، وكان ذلك على الله يسيرًا، والمعنى لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئًا بعد شيء إلى غير النهاية يسيرًا عليه وإن كان متعذرًا على غيره. اهـ..قال السمرقندي: قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} يعني صرفوا الناس عن دين الله {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} عن الحق.ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أي جحدوا وأشركوا {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أي ما داموا على كفرهم {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يعني: لا يوفقهم لطريق الإسلام {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} يعني: يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم.ويقال: إلا العمل الذي يجبرهم إلى جهنم.وقال الضحاك: لا يهديهم طريقًا يوم القيامة، أي لا يرفع لهم إلا طريق جهنم.وذلك أن أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة، ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار.ثم قال تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} أي دائمين فيها {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيرًا} أي خلودهم وعذابهم في النار هيّن على الله تعالى. اهـ..قال ابن عطية: أخبر تعالى عن الكافرين الذين يصدون الناس عن سبيل الله أنهم قد بعدوا عن الحق و{ضلوا ضلالًا بعيدًا} لا يقرب رجوعهم عنه ولا تخلصهم معه، وقرأ عكرمة وابن هرمز {وصُدوا} بضم الصاد.ثم أخبر تعالى عن الكافرين الظالمين في أن وضعوا الشيء في غير موضعه، وهو الكفر بالله، والله تعالى يستوجب منهم غير ذلك لنعمه الظاهرة والباطنة أنهم بحيث لم يكن ليغفر لهم، وهذه العبارة أقوى من الإخبار المجرد أنه لا يغفر، ومثال ذلك أنك إذا قلت: أنا لا أبيع هذا الشيء فهم منك الاغتباط به، فإذا قلت: أنا ما كنت لأبيع هذا الشيء، فالاغتباط منك أكثر، هذا هو المفهوم من هذه العبارة، وقوله تعالى: {ولا ليهديهم طريقًا إلا طريق جهنم} هذه هداية الطرق وليست بالإرشاد على الإطلاق. وباقي الآية بيّن يتضمن تحقير أمر الكفار، وأنهم لا يباليهم الله بالة كما ورد في الحديث، يذهب الصالحون الأول فالأول. حتى تبقى حثالة كحثالة التمر لا يباليهم الله بالة، المعنى: إذ هم كفار في آخر الزمان وعليهم تقوم الساعة. اهـ.
|