الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كالأعلام (32)}.
والإشارة في هذا إلى إمساك الناس في خلال فَتْرَةِ الوقت عن الأنواء المختلفة، وحفظهم في إيواء السلامة، فالواجبُ الشكرُ في كل حالة، وإذا خَلُصَ الشكرُ استوجب جزيلَ المزيد.{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْء فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}.يعني أنَّ الراحاتِ في الدنيا لا تصفو، ومن المشائب لا تخلو. وإنْ اتفق وجودُ البعض منها في أحايين فإنها سريعة (الزوال)، وشيكة الارتحال.{وَمَا عِندَ اللَّهِ} من الثواب الموعود {خيرٌ} من هذا القليل الموجود.{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}.{كَبَائِرَ الإِثْمِ}: الشِرْك. و{وَالْفَوَاحِشَ}: ما دون ذلك من الزلاَّت. فإذا تركوها لا يتجرَّعون كاساتِ الغضب بل تسكن لديهم سَوْرَةُ النَّفْسِ؛ لأنهم يتوكلون على ربهم في عموم الأحوال.{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)}.{اسْتَجَابُواْ لِرَبْهِمْ} فيما دعاهم إليه وما أَمَرَهم به من فنون الطاعات؛ فهؤلاء هم الذين لهم حُسْنُ الثوابِ وحميدُ المآبِ.والمستجيبُ لربِّه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا تَبْقَى منه لنَفْسِه بقية.{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}: لا يستبَّد أحدُهم برأيه؛ لأنه يَتَّهِمُ أمرَه ورأيَه أبدًا ثم إذا أراد القطعَ بشيء يتوكل على الله.{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)}.{البغيُ}: الظلمُ، فيعلم أحدهم أن الظلمَ الذي أصابه هو من قِبَلِ نَفسِه، فينتصر على الظالم وهو نفسه؛ بأَنْ يكبحَ عنانها عن الركض في ميدان المخالفات.{وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)}.(يعني لا تجاوزوا حدَّ ما جنى الجاني عليكم في المكافأة أو الانتقام).{فَمَنْ عفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}: مَنْ عفا عن الجاني، واصلح ما بينه وبين الله- أَصْلَحَ اللَّهُ ما بينه وبين الناسِ.{فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}: فالذي للعبد من الله وعلى الله وعند الله خيرٌ مما يعمله باختياره.{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}.عَلِمَ الله أن الكُلَّ من عباده لا يجد التحررَ من أحكام النًَّفْس، ولا يتمكن من محاسن الخُلُق فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط- وإنْ كان الأَوْلى بهم الصفح والعفو.{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} السبيلُ بالملامة لِمَنْ جاوز الحدَّ، وعدا الطَّوْرَ، وأتى غيرَ المأذونِ له من الفعل.. فهؤلاء لهم عذابٌ أليم.{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}.صَبَرَ على البلاْء من غير شكوى، وغَفَرَ- بالتجاوز عن الخَصْم- ولم تبقَ لنَفْسه عليه دعوى، بل يُبرئ خَصْمَه من كل دعوى، في الدنيا والعُقبى.. فذلكَ من عزم الأمور.{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقولونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)}.إن الذين أضلَّهم اللّهُ، وأعمى أبصارَهم وبصائرَهم، وأوقعهم في كدِّ عقوبتهم، وحَرَمَهم بَرْدَ الرضا لحكْم ربِّهم ليس لهم وليٌّ من دون الله، ولا مانعَ لهم من عذابه. وتراهم إذا رأوا العذابَ يَطلبون منه النجاة فلا ينالونها.وتراهم يُعْرَضُون على النار وهم خاشعون من الذُّلِّ؛ لا تنفعهم ندامةٌ، ولا تُسْمَعُ منهم دعوةٌ، ويُعَيِّرهُم المؤمنون بما ذَكَّروهم به فلا يسمعون، فاليومَ لا ناصرَ بنصرهم، ولا راحمَ يرحمهم.{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)}.الاستجابةُ لله الوفاء بعهده، والقيامُ بحقِّه، والرجوعُ عن مخالفته إلى مرافقته، والاستسلام.في كل وقتٍ لحُكْمهِ. والطريقُ اليومَ إلى الاستجابة مفتوحٌ. وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتةً، ويُؤْخَذُ فلتةً.{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ}.فإن أعرضوا عن الإجابة فليس عليك إلا تبليغُ الرسالة، ثم نحن أعلمُ بما نعاملهم به.قوله جلّ ذكره: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ}.إذا أذقنا الإنسان مِنَّا رفاهيةً ونعمةً فَرِحَ بتلك الحالة، وقابلها بالبَطَرِ، وتوصَّل بتمام عافيته إلى المخالفة، وجعل السلامةَ ذريعةً للمخالفة. وإنْ أصابته فتنةٌ وبلية، ومَسَّتْهُ مصيبةٌ ورزية فإنه كفورٌ بنعمائنا، وجحودُ لآياتنا. اهـ. .تفسير الآيات (49- 51): قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاء الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما قدم سبحانه في هذه السورة أن له التصرف التام في عالم الخلق بالأجسام المرئية وفي عالم الأمر بالأرواح الحسية والمعنوية القائمة بالأبدان والمدبرة للأديان، وغير ذلك من بديع الشأن، فقال في افتتاح السورة {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك} وأتبعه أشكاله إلى أن قال: {أم يقولون افترى على الله كذبًا فإن يشأ الله يختم على قلبك} الآية {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفكسم أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا}- الآية {له مقاليد السماوات والأرض} {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء} {من كان يريد حرث الآخرة}- الاية، {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض}، {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام}- الآية إلى أن ذكر أحوال الآخرة في قوله: {وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون}- الآيات، وختم بتصرفه المطلق في الإنسان من إنعام وانتقام، وما له من الطبع المعوج مع ما وهبه له من العقل المقيم في أحسن تقويم، فدل ذلك على أن له التصرف التام ملكًا وملكوتًا خلقًا وأمرًا، أتبعه الدليل على أن تصرفه ذلك على سبيل الملك والقهر إيجادًا وإعدامًا إهانة وإكرامًا، فقال صارفًا القول عن أسلوب العظمة التي من حقها دوام الخضوع وإهلاك الجبابرة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم الجامع لمظهر العظمة ومقام اللطف والإحسان والرحمة نتيجة لكل ما مضى: {لله} أي الملك الأعظم وحده لا شريك له {ملك السماوات} كلها على علوها وارتفاعها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها {والأرض} جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها.ولما أخبر بانفراده بالملك، دل عليه بقوله تعالى: {يخلق} أي على سبيل التجدد والاستمرار {ما يشاء} أي وإن كان على غير اختيار العباد، ثم دل على ذلك بما يشاهد من حال الناس فانه لما استوى البشر في الإنسانية والنكاح الذي هو سبب الولادة اختلفت أصناف أولادهم.كان ذلك أدل دليل على أنه لا اختيار لأحد معه وأن الأسباب لا تؤثر أصلًا إلا به.ولما كانت ولادة الإناث أدل على عدم اختيار الولد وكانوا يعدونه من البلاء الذي ختم به ما قبلها قدمهن في الذكر فقال: {يهب} خلقًا ومولدًا {لمن يشاء} أولادًا {إناثًا} أي فقط ليس معهن ذكر كما في لوط عليه الصلاة والسلام، وعبر سبحانه فيهن بلفظ الهبة لأن الأوهام العادية قد تكتنف العقل فتحجبه عن تأمل محاسن التدبيرات الإلهية، وترمي به في مهاوي الأسباب الدنيوية، فيقع المسلم مع إسلامه في مضاهاة الكفار في كراهة البنات وفي وادي الوأد بتضييعهن أو التقصير في حقوقهن وتنبيهًا على أن الأنثى نعمة، وأن نعمتها لا تنقص عن نعمة الذكر وربما زادت، وإيقاظًا من سنة الغفلة على أن التقديم وإن كان لما قدمته لا يقدم تأنيسًا وتوصية لهن واهتمامًا بأمرهن، نقل ابن ميلق عن ابن عطية عن الثعلبي أن واثلة بن الأسقع- رضي الله عنه- قال: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إليهن في أحاديث كثيرة ورتب على ذلك أجرًا كبيرًا ولأجل تضمين الهبة مع الخلق عداها باللام مع أن فعلها متعد بنفسه إلى مفعولين لئلا يتوهم أن الولد كان لغير الوالد ووهبه الله له.ولما كان الذكر حاضرًا في الذهن لشرفه وميل النفس إليه لا سيما وقد ذكر به ذكر الإناث، عرف لذلك وجبرًّا لما فوته من التقديم في الذكر تنبيهًا على أنه ما أخر إلا لما ذكر من المعنى فقال: {ويهب لمن يشاء الذكور} أي فقط ليس بينهن أنثى كما صنع لإبراهيم عليه السلام وهو عم لوط عليه السلام.ولما فرغ من القسمين الأولين عطف عليهما قسيمًا لهما ودل على أنه قسم بأو فقال: {أو يزوجهم} أي الأولاء بجعلهم ازواجًا أي صنفين حال كونهم {ذكرانًا وإناثًا} مجتمعين في بطن ومنفردين كما منح محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورتبهما هنا على الأصل تنبيهًا على أنه ما فعل غير ذلك فيما مضى إلا لنكت جليلة فيجب تطلبها، وعبر في الذكر بما هو أبلغ في الكثرة ترغيبًا في سؤاله، والخضوع لديه رجاء نواله.ولما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك، فقال موضع أن يقال مثلًا: ولا يهب شيئًا من ذلك لمن يشاء: {ويجعل من يشاء عقيمًا} أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام- كذا قالوه، والظاهر أنه لا يصح مثالًا فإنه لم يتزوج، قال ابن ميلق، وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء- انتهى.فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم، وأدل على القدرة لأن شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه الصلاة والسلام.ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويولد له، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهو أغلب الناس، فتمت الدلالة على أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن، ولا مكون له ولا مانع أعطى ولا معطي لما منع.ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بنيت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم، كانت النتيجة قطعًا لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدمًا فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك: {إنه عليم} أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها {قدير} شامل القدرة على تكوين ما يشاء.ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة، والقدرة فيه أظهر وفاقًا لما ختمت به الآية، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعًا من غير توسط سبب، وقد يكون بتوسيط سبب، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر العلم وقسمه أيضًا إلى ما هو بواسطة وإلى ما هو بغير واسطة ولكن سر التقدير في القسم الأول الكلام وهو الذي شرف به وكان لا يمكن أحدًا أن يتكلم إلا بتكليم الله له أي إيجاده الكلام في قلبه قال: {وما} أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحيًا منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما {كان لبشر} من الأقسام المذكورة، وحل المصدر الذي هو اسم {كان} ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال: {أن يكلمه} وأظهر موضع الإضمار إعظامًا للوحي وتشريفًا لمقداره بجلالة إيثاره قفال: {الله} أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلامًا {إلا وحيًا} أي كلامًا خفيًا يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء خلق الله في المكلم به قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام مطلقًا سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسيمًا لما بعده أولًا أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير {وأوحينا إلى أم موسى} [القصص: 7] {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 68] {وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12] فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه- والله أعلم.وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز: وقد قيل في قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا} الآية أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه: والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة.ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان، استعير لمطلق الخفاء فقال: {أو من} أي كلامًا كائنًا بلا واسطة، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من {وراء حجاب} أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر، قال القشيري: والمحجوب العبد لا الرب، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام- انتهى.والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانيًا دليلًا على نفيه أولًا، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولًا دليلًا على الجهر ثانيًا، والحجاب ثانيًا دليلًا على الرؤية أولًا، وسره أن ترك التصريح والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة.ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه أخفى الأقسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال: {أو يرسل} وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله {رسولًا} أي من الملائكة.ولما كان الوحي مسببًا عن الإرسال ومرتبًا عليه قال: {فيوحي} أي على سبيل التجديد والترتيب، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير: أو هو يرسل.ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلًا يخرج عن فعله، رد ذلك بقوله: {بإذنه} أي بإقداره وتمكينه، فذلك المبلغ إنما هو آلة.ولما كان رسوله لا يخرج عما حده له بوجه قال: {ما يشاء} أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلًا فهو المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام: أولها فيه قسمان، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضًا يقع دفعة، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة.
|