الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
.باب صَلاَةِ العيدَين: سمي عيداً لأنه يعود ويتكرر، والأعياد قديمة في الأمم، لكل مناسبة كبيرة يجعلون عيداً يُعِيدُون فيه تلك الذكرى، ويظهرون فيه أنواع الفرح والسرور. ولكونها أعياداً من تلقاء أنفسهم، فإن مظهرها يكون مادياً بحتاً.وأمد الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعيد الفطر، وعيد الأضحى. يتوسعون فيهما بالمباحات، ويتقربون إلى ربهم بالطاعات، شكراً لله تعالى على ما أنعم عليهم به، من تسهيل صيام رمضان في الفطر، وسؤال قبوله، وعلى ما يسر لهم من أداء المناسك، والتقرب ببهيمة الأنعام في عيد الأضحى. وشرع لهم الاجتماع للصلاة في هذين العيدين، ليتعارفوا ويتواصلوا، ويُنهَنِّئ بعضهم بعضاً، فيتحابوا، ويتآلفوا. وتحقق هذه الاجتماعات الإسلامية من المصالح الدينية والدنيوية ما يدل على أن الإسلام هو الدستور الإلهي، الذي أنزل الله لإسعاد البشرية. قال ابن القيم في الهدى ما خلاصته: كان يصلي العيدين في المصلى دائماً ولم يصل في المسجد إلا مرة لما أصابهم مطر، وكان يلبس للخروج إلى صلاتي العيد أجمل ثيابه، كان يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات وترا، أما في الأضحى فلا يطعم حتى يعود من المصلى فيأكل من أضحيته، وكان يغتسل للعيد ويخرج إليهما ماشياً وقال: إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة بلا أذان ولا إقامة ولا الصلاة جامعة فإذا صلى قام مقابل الناس والناس جلوس فوعظهم، ويفتتح الخطبة بالحمد لله. ورخص لمن يشهد صلاة العيد أن يجلس للخطبة أو أن يذهب، وكان يذهب من طريق ويعود من طريق آخر. قال ابن دقيق العيد لا خلاف في أن صلاة العيدين من الشعائر المطلوبة شرعاً وقد تواتر بها النقل الذي يقطع العذر، ويغنى عن الأخبار الآَحاد، وأول صلاة عيد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة. الحديث الأول: عَنْ عَبدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأبُو بَكْرٍ وَعُمَر يُصَلُّونَ الْعِيدَين قَبْلَ الْخُطْبَةِ. المعنى الإجمالي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يصلوا بالناس صلاة العيد، في الفطر والأضحى، ويخطبوا، ويقدموا الصلاة على الخطبة. ففيه تقديم الصلاة على الخطبتين، وتأتي بقية أحكامه في الأحاديث بعده. الحديث الثاني: عَن البَرَاءِ بن عَازبٍ رَضيَ الله عَنهمَا قَالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلاة فَقَال: «من صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصلاةِ فَلاَ نُسُكَ لَه». فقال أبو بُرْدَةَ بن نِيَار- خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نَسَكتُ شاتي قَبلَ الصَّلاَةِ، وَعَرَفْتُ أنَّ اليوم يَومُ أكل وَشُرب وَأحْبَبْتُ أن تكُون شَاتي أوَّلَ مَا يُذْبَحُ في بَيْتي، فَذَبَحْتُ شَاتي وتغدَّيْتُ قبل أن آتي الصَّلاَةَ. قال: «شَاتُكَ شَاَةُ لَحمٍ». قال: يَا رَسُولَ الله، فَإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقاً وَهِيَ أحَبُّ إِلَينا مِنْ شَاتَيْنِ، أفتجْزِى عَنى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَن تُجزِيَ عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ». غريب الحديث: نسك: النسك، الذبح، والنسيكة الذبيحة، ويأتيْ لمعان مجازية. ولكن المراد هنا ما ذكرنا. وجمع النسيكة نسك، بضم السين. وأما سكونها فهو للعبادة. عناقاً: العناق، الأنثى من ولد المعزى إذا قويت ولم تتم الحول، وهو بفتح العين وتخفيف النون. المعنى الإجمالي: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد الأضحى بعد صلاتها. فأخذ يبين لهم أحكام الذبح ووقته في ذلك اليوم، فذكر لهم أنه من صلى مثل هذه الصلاة، ونسك مثل هذا النسك، اللذين هما هديه صلى الله عليه وسلم، فقد أصاب النسك المشروع. أما من ذبح قبل صلاة العيد، فقد ذبح قبل دخول وقت الذبح فتكون ذبيحته لحماً، لا نُسُكاً مشروعاً مقبولا. فلما سمع أبو بردة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله: إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي، وتغديت قبل أن آتي إلى الصلاة. فقال صلى الله عليه وسلم: ليست نسيكتك مشروعة، وإنما هي شاة لحم. قال يا رسول الله: إن عندي عَنَاقا مُرَبّاة في البيت، وغالية في نفسي، وهي أحب إلينا من شاتين، أفتجزئ عنى إذا أرخصتها في طاعة الله ونسكتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» ولكن هذا الحكم لك وحدك من سائر الأمة، فلا تجزئ عنهم عناق من المعزى ما لم تُتم سنة. ما يؤخذ من الحديث: 1- فيه تقديم الصلاة على الخطبة في صلاة العيد، وأن هذا هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. 2- وفيه أن من حضر الصلاة والذكر، ثم ذبح بعد الصلاة، فقد أصاب السنة، وحظى بالاتباع. 3- وفيه أن حضور الصلاة من علامات قبول النسك. وأما من ذبح قبل الصلاة، فإن نسكه غير مقبول وغير مجزىء. 4- وأن وقت الذبح يدخل بانتهاء الصلاة. قال ابن دقيق العيد: ولاشك أن الظاهرمن اللفظ أن المراد فعل الصلاة، وإرادة وقتها خلاف الظاهر، فالحديث نص على اعتبار الصلاة، ولم يعترض لاعتبار الخطبتين. اهـ فمن ذبح قبله فلا يجزئ عنه ولو كان جاهلا قبل دخول وقتها. 5- وفيه أن يوم العيد يوم فرح وسرور، وأكل، وشرب، إذا أريد بذلك إظهار معنى العيد، فهو عبادة. 6- أنه لا يجزئ في الهدى والأضاحي من المعزى، إلا ما تم له سنة. 7- تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم أبا بردة بإجزاء العناق، فهو له من دون سائر الأمة. 8- قال ابن دقيق العيد: وفيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل، بخلاف المنهيات، فقد فرقوا في ذلك. فعذروا في المنهيات بالنسيان والجهل وقال الصنعاني: ويدل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بإعادتها مع تصريحه بأنه لا يحسن سواها، وكذلك أمر من نحر قبل الصلاة بالإعادة، وهذه قاعدة نافعة. الحديث الثالث: عَنْ جُنْدُب بن عَبْدِ الله البجَليِّ رضيَ الله عَنْهُما قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحْرِ ثم خَطبَ ثُم ذَبَح وَقالَ: «مَنْ ذَبَح قَبلَ- أن يُصَلِّيَ فَلْيَذبح أخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذبَح فَلْيَذبَحْ بِاسمِ الله». الغريب: البجلي: بفتح الباء والجيم منسوب إلى قبيلته (بَجِيلة). فليذبح بسم الله: أي قائلاً: بسم الله، بدليل رواية: «فَلْيذْبَحْ على اسْم الله». المعنى الإجمالي: ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالصلاة، ثم ثنى بالخطبة، ثم ثلث بالذبح وقال مبيناً لهم: من ذبح قبل أن يصلى، فاٍن ذبيحته لم تجزئ، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح بسم الله. مما دل على مشروعية هذا الترتيب الذي لا يجزئ غيره. وهذا الحديث أظهر وأدل من الحديث الذي قبله باعتبار دخول وقت الذبح بانتهاء صلاة العيد، لا بوقت الصلاة كما هو مذهب الشافعي، ولا بنحر الإمام كما هو مذهب مالك، وإنما بانتهاء الصلاة كما هو مذهب الحنفية والحنابلة. كما أن الحديث يدل على مشروعية ذكر اسم الله عند الذبح. ومعنى الحديث تقدم. خلاف العلماء: ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى أن الأضحية واجبة على الموسر لقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} وذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة. والأولى عدم تركها لمن قدر عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا». الحديث الرابع: عَنْ جَابر رَضَي الله عَنْهُ قال: شَهِدْتُ مَع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ العيد، فَبَدَأَ بالصلاة قَبْل الخُطْبَةِ بِلاَ أذَانٍ وَلاَ إقَامَةٍ، ثم قَامَ متَوَكِّئاً على بِلا ل، فَأمَرَ بِتَقوى الله وحَثَّ عَلىِ طَاعَتِهِ، ووَعَظَ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النِّساء فوعظهنَّ فقال يا معشر النِّساء: تَصدَّقْنَ فإنَّكُنَّ أكثر حطب جهنَّم. فَقَامَتِ امْرَأة من سطة النِّسَاء سَفْعاءُ الخَدَّين فَقَالتْ: لمَ يا رَسُول الله؟ قال: «لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاة وتكفرن العشير». قَال: فَجَعَلْن يَتَصَدَّقْن من حُليِّهِنَّ: يُلْقِينَ في ثَوْب بلاَل من أقْراطِهنَّ وخَواتِيمِهِنَّ. رواه مسلم. الغريب: سِطَة النساء: بكسر السين وفتح الطاء المخففة، أي جالسة وسطهن. سفعاء الخدين: قال في المحكم: السفَع السواد والشحوب. الشَّكاة: هي بفتح الشين والقصر، بمعنى الشكاية، وهي الشكوى. أقراطهن: هو جمع قُرط بضم القاف وهو ما يعلق بشحمة الأذن. متوكئا: متحاملاً. حث: حرض. لم: أصله لما وحذفت الألف من ما، الاستفهامية بسبب اللام. الحُلِىّ: جمعُ حَلي: وهو ما يتخذ للزينة من المعادن الكريمة. المعنى الإِجمالي: صلي النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة العيد بلا أذان لها ولا إقامة فلما فرغ من الصلاة خطبهم فأمرهم بتقوى الله بفعل الأوامر واجتناب النواهي ولزوم طاعة الله في السر والعلانية، وأن يتذكروا وعد الله ووعيده ليتعظوا بالرهبة والرغبة، ولكون النساء في معزل عن الرجال بحيث لا يسمعن الخطبة. وكان حريصاً على الكبير والصغير، رؤوفا بهم، مشفقاً عليهم. اتجه إلى النساء، ومعه بلال، فوعظهن، وذكرهن، وخصهن بزيادة موعظة وَبَيَّنَ لهن أنهن أكثر أهل النار، وأن طريق نجاتهن منها الصدقة لأنها تطفىء غضب الرب. فقامت امرأة جالسة في وسطهن وسألته عن سبب كونهن أكثر أهل النار ليتداركن ذلك بتركه فقال: لأنكن تكثرن الشكاة والكلام المكروه، وتجحدن الخير الكثير إذا قصر عليكن المحسن مرة واحدة. ولما كان نساء الصحابة رضي الله عنهم سبَّاقات إٍلي الخير وإلى الابتعاد عما يغضب الله أخذن يتصدقن بحليهن التي في أيديهن، وآذانهن، من الخواتم والقروط، يلقين ذلك في حجر بلال، محبة في رضوان الله وابتغاء ما عنده. ما يؤخذ من الحديث: 1- البداءة بصلاة العيد قبل الخطبة، وتقدم. 2- أنه ليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة. 3- استحباب كون الخطيب قائماً. 4- أن يأمر الخطيب بتقوى الله تعالى، التي هي جماع فعل الأوامر وترك والنواهي مجملاً. ثم يفصّل من ذلك ما يناسب المقام. 5- تذكريهم بلزوم التقوى والطاعة لله، بذكر الوعد والوعيد فالمقاصد التي ذكرت في الحديث من الأمر بتقوى الله والحث على طاعته والموعظة والتذكير هي مقاصد الخطبة، وقد عدها بعض العلماء أركان الخطبة الواجبة. 6- إفراد النساء بموعظة، إذا كنّ بعيدات لا يسمعن الوعظ، أو كنَّ محتاجات لتذكير يخصهن. 7- أن النساء كن يخرجن إلى صلاة العيد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 8- أن يتنحَّيْنَ عن الرجال ولا يخالطهم في المساجد ولا غيرها. 9- كون النساء أكثر الناس دخولا في النار بسبب شكواهن، وبسبب كفرهن نِعمَ الأزواج والمحسنين إليهن. 10- أن كلام الفاحش وكفر النعم سبب من دخول النار. 11- أن الصدقة من أسباب النجاة من عذاب الله تعالى. 12- مخاطبة نساء الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يهمهن أمره. 13- فقه نساء الصحابة وفهمهن، لأن هذه المتكلمة لما قال لهن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهن أكثر أهل النار» فهمت أن هذا ليس ظلما من الله وحاشاه، وإنما بسبب الذنوب، فسألت عن هذا السبب الموجب لهن ذلك. 14- مبادرتهن إلى فعل الخير، إذ أسرعن إلى الصدقة رغبة ورهبة من الله. 15- أن المرأة الرشيدة تتصدق من مالها بغير إذن زوجها، وهو قول جمهور العلماء. 16- أخذ منه جواز ثقب الأذن المرأة. الحديث الخامس: عَنْ أمِّ عَطِيَّة نُسيبة الأنصاريَّة رضي الله عنها قالت: أمرنا تعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نُخْرِجَ في العيدين العواتق وذوات الخدورِ وأمر الحُيَّضَ أن يعتزلن مصلى المسلمين. وفي لفظ: كنا نُؤْمَرُ أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خِدْرها، وحتى نخرج الحُيَّض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. غريب الحديث: العواتق: جمع عاتق المرأة الشابة أول ما تبلغ. ذوات الخدور: جمع خدر بكسر الخاء المعجمة أى سترها. وهو جانب من البيت، يجعل عليه سترة، يكون للجارية البكر. يدعون ويرجون: الواو في هذين الفعلين من أصل الفعل، وليست واو جماعة، حتى نخرج، حتى الأولى للغاية، وحتى الثانية للمبالغة. طهرته: أي حصول تطهير الذنوب فيه. المعنى الإجمالي: يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى من الأيام المفضلة، التي يظهر فيها شعار الإسلام وتتجلى أخوة المسلمين باجتماعهم وتراصِّهم، كل أهل بلد يلتمون في صعيد واحد إظهاراً لوحدتهم، وتألفِ قلوبهم، واجتماع كلمتهم على نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة الله. وإقامة ذكر الله وإظهار شعائره. فيحل بهم من ألطاف الله وينزل عليهم من بركاته، ويشملهم من رحمته ما يليق بلطفه وجوده وإحسانه. لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحضّ على الخروج، حتى على الفتيات المخدرات، والنساء الحيض، على أن يكن في ناحية بعيده عن المصلين، ليشهدن الخير ودعوة المسلمين فَيَنَلْنَ مِن خير ذلك المشهد، ويصيبهن من بركته، ما هن في أمسِّ الحاجة إليه، من رحمة الله ورضوانه. اختلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم صلاة العيد. فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى أنها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفى سقطت عن الباقين. ودليله على هذا القول: أنها صلاة لم يشرع لها أذان ولا إقامة، فلم تجب على الأعيان. وحديث الأعرابي الآتي، يدل على أنه لا يجب فرض عين إلا الصلوات الخمس. وذهب مالك والشافعي في المشهور عند أصحابه إلى أنها سنة مؤكدة. ودليلهم كل هذا، حديث الأعرابي الذي ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أن عليه خمس صلوات فقال: هل عَلَيَّ غيرهن؟ «قال: لا، إلا أن تطوع». وذهب أبو حنيفة وروى عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها فرض عين. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِربِّكَ وَانْحَرْ} {قد أفلحَ من تزكى. وَذَكَر اسْمَ ربِّهَ فَصلى} في بعض أقوال المفسرين أن المراد بالصلاة في هاتين الآيتين، صلاة العيد. ولأمره بخروج العواتق والمخدرات، وأمرهم بصلاتها من الغد حين لم يعلموا برؤية الهلال إلا بعد انتهاء وقتها. والأمر في كل هذه الأدلة يقتضي الوجوب، وكذلك مداومته عليها وخلفاؤه من بعده. أما حديث الأعرابي، فليس فيه ما يدل على عدم وجوبها لأن سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم وإجابته إياه بصدد ما يتكرر في اليوم والليلة من الصلوات المفروضات، لا ما يكون عارضا لسبب، كصلاتي العيدين اللتين هما شكر لله تعالى على توالى نعمه الخاصة، بصيام رمضان وقيامه، ونحر البدن، أداء المناسك. وشيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى وجوبها على النساء لظاهر حديث هذا الباب. ما يؤخذ من الحديث: 1- وجوب صلاة العيد حتى على النساء في ظاهر الحديث. على شرط ألا يخرجن متبرجات متعطرات لورود النهي عن ذلك. ولعله مستحب في حقهن ويكون أمرهن من باب الحضِّ على فعل الخير. 2- وجوب اجتناب الحائض المسجد لئلا تلوثه. 3- أن مصلى العيد له حكم المساجد. 4- أن الحائض غير ممنوعة من الدعاء وذكر الله تعالى. 5- فضل يوم العيد وكونه مرجوًّا لإجابة الدعاء، وسماع النداء من العَلِيِّ الأعلى. التكبير في العيدين: وهو ملخص من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. وقته: أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والخلف والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة مفروضة، وعند خروجه إلى العيد. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. صفته: وصفة التكبير المنقول عن أكثر الصحابة ما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر. الله أكبر، ولله الحمد»، ومن الفقهاء من يكبر ثلاثا فقط، ومنهم من يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير وهو مروي عن ابن عمر. واختار الأول أبو حنيفة وأحمد وغيرهما. ومن الناس من يثلثه أول مرة، ويشفعه ثاني مرة، ويعمل به طائفة من الناس. وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، وهي أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف ونوعى الأذان ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها وأنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الاستعاذات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة والقنوت بعد الركوع وقبله وغير ذلك، ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادات المتنوعة في الوقت الواحد والجمع بينها في مقام واحد من العبادة بدعة، وكذلك التلفيق والجمع بينها لا يشرع، والصواب التنويع في ذلك متابعة للنبي وإحياء لجميع سننه بعمل هذا مرة، وعمل الآخر مرة أخرى، ففيه تأليف قلوب الأمة وإحياء للسنة ومتابعة له صلى الله عليه وسلم. التكبير عند الأمور الهامة: قال رحمه الله: إذا كانت السنة قد جاءت بالتكبير في عيد النحر في صلاته وخطبته ودبر صلواته وعند رمي الجمار وعند الفراغ من الصيام وعند هدايته، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال: «الله أكبر خرجت خيبر» وكان يكبر إذا أشرف على محل، وإذا ركب دابته، وإذا صعد الصفا والمروة، وجاء التكبير في الأذان والإقامة للصلاة وعند الدخول في الصلاة، وعند إطفاء الحريق، وشرع التكبير الدفع العدو ودفع الشياطين. وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة، ليبين أن الله أكبر وتستولي كبرياؤه على القلوب، فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرين، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه، ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر، لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد، وهي مصالحه، فخض بصريح التكبير، لأنه أكبر نعمة الحق. فجماع هذا أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير أهـ. ولهذا فإني أهيب بجميع المسلمين أن يفزعوا إلى التكبير عندما يعجبهم أمر، فهذا سنة نبيهم، وليس التصفيق الذي جاءنا من أعدائنا المستعمرين، وخاصة في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم. .باب صَلاَة الكسوف: الكسوف والخسوف، يطلق الأول على ذهاب ضوء الشمس أو بعضه والثاني على ذهاب ضوء القمر أو بعضه في الغالب والفصيح.وللكسوف والخسوف أسباب عادية حسية، تدرك بعلم حساب سير الشمس والقمر، كما أن لهما أسباباً معنوية خفية، وكل من هذه الأسباب الحسية والمعنوية إلهي. فعندما تقتضي الحكمة الإلهية تغير شيء من آيات الله الكونية، كالكسوف والخسوف والزلازل، ليوقظ الناس من الغفلة من عبادته، أو يزجرهم عن ارتكاب مناهيه، يقدر الأسباب الحسية العادية لتغيير هذا النظام الكوني، من ذهاب نور أحد النورين. أو ثوران البراكين. وهبوب الرياح أو قصف الصواعق أو غير ذلك من آيات كونه. ليعلم العباد أن وراء هذه الأكوان العظيمة مدبراً قديراً، بيده كل شيء، وهو محيط بكل شيء. فهو قادر على أن يعاقبهم بآية من آياته الكونية، أهلك الأمم السابقة بالصواعق والرياح والطوفان والزلازل والخسوْف. كما أنه قادر على أن يسلبهم نور الشمس والقمر، فيظلوا في أرضهم يعمهون أو يصيبهم بالقحط، فتذوى أشجارهم، وتجف أنهارهم، ولينبههم على أن الكون في قبضته، فيرهبوا جنابه، ويخافوا عقابه. ولكننا قد أصبحنا في زمن المادة وطغيانها، فصار الناس لا يدركون من تغير هذه الآيات إلا المعاني المادية، ونسوا أو جهلوا، المعاني المعنوية من التحذير من عقاب الله، وتذكير نعمه فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما خلاصته: الخسوف والكسوف لهما أوقات مقدرة كما لطلوع الهلال وقت مقدر وذلك ما أجرى الله عليه أمره بالليل والنهار والشتاء والصيف وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر وذلك من آيات الله تعالى {وهو الذي جعل الشمس ضياء وجعل القمر نورا وقدره منازل} وقال: {الشمس والقمر بحسبان} وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين أو إحدى وثلاثين فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الإسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار. لكن العلم في العادة في الهلال علم عام يشترك فيه جميع الناس وأما العلم بالعادة بالكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانها، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ولا من باب ما يخبر به الذي يكون كذبه به فيها أعظم من صدقه فإن ذلك قول بلا علم ثابت الذي نهى عن إتيانهم ومسألتهم. والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنا لكن المخبر المعين قد يكون عالما بحسابه وقد لا يكون، فإذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شوهد ذلك، وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوي أن أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته فإن الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين وقد تواترت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث الأول: عَنْ عَاِئشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ الشَّمس خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ مُنَادياً يُنَادِي: الصلاَةَ جَامِعَة، فَاجتَمَعُوا. وَتَقَدَّمَ فَكَبرَّ وَصلَّى أربَعَ رَكَعَاتٍ في ركعَتَين وَأربعَ سَجَدَاتٍ. الغريب: خسفت: جوز فيه فتح الخاء والسين وضم الخاء وكسر السين. الصلاة جامعة: نصب الأول على الإغراء، والثاني على الحال، وفيها غير هذا الإعراب، ولكن هذا هو الأولى. المعنى الإجمالي: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً في الشوارع والأسواق ينادى الناس (الصلاة جامعة) ليصلوا ويدعو الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم ويرحمهم وأن يديم عليهم نعمه الظاهرة والباطنة. واجتمعوا في مسجده صلى الله عليه وسلم وتقدم بلا إقامة، فكبر وصلى ركعتين في سجدتين، وركعتين في سجدتين كما يأتي تفصيل ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها. ما يؤخذ من الحديث: 1- وجود خسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- استحباب الصلاة عند الخسوف، ونقل النووي الإجماع على أنها سنة. 3- مشروعية الاجتماع لها لأجل التضرع والدعاء، والمبادرة بالتوبة والاستغفار لأن سبب ذلك الذنوب. 4- أنه ليس لها أذان، وإنما ينادى لها بـ الصلاة جامعة. 5- أن صلاة الكسوف أربع ركعات، وأريع سجدات، ويأتي تفصيل ذلك وكيفيته إن شاء الله تعالى. الحديث الثاني: عن أبي مسَعُودٍ، عُقْبَةَ بن عَامِر الأنصَارِيِّ رضيَ الله عَنْهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ آيتان مِنْ آيات الله، يُخَوِّفُ الله بِهمَا عِبادَهُ، وَإِنَّهُمَا لا ينكَسِفَانِ لمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النَّاسَ وَلاَ لحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأيتم ْ مِنْهُمَا شَيْئَاً فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَابكم». المعنى الإجمالي: بين صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر من آيات الله الدالة على قدرته وحكمته، وأن تغيُّر نظامهما الطبيعي، لا يكون لحياة العظماء أو موتهم كما يعتقد أهل الجاهلية. وإنما يكون ذلك لأجل تخويف العباد، فيجددوا التوبة والإنابة إلى الله تعالى. ولذا أرشدهم أن يفزعوا إلى الصلاة والدعاء، حتى ينكشف ذلك عنهم وينجلي. ولله في كونه أسرار وتدبير. ما يؤخذ من الحديث: 1- مشروعية الصلاة والدعاء عند الكسوف والخسوف، رجوعاً إلى الله. 2- أن انتهاء الصلاة يكون بالتجلي فإن انتهت قبل التجلي تضرعوا ودعوا، حتى يزول ذلك، فإنه لم يرد في إعادتها شيء. 3- ظاهر الحديث أنهم يصلون، ولو صادف وقت نَهْي وهو الصحيح. لأنها من ذوات الأسباب التي تصلي عند وجود سببها مطلقا. وتقدم الخلاف في هذه الصلاة ونظائرها في باب المواقيت. 4- أن الحكمة في إيجاد الكسوف أو الخسوف، هو تخويف العباد، وإنذارهم بعقاب الله تعالى، وإزعاج القلوب الساكنة بالغفلة وإيقاظها وإطلاع الناس على نموذج مما يقع يوم القيامة، والإعلام أنه يؤخذ بالذنب من لا ذنب له، ليحذر المذنب من ذنبه، ويحذّر المطيعُ العاصيَ، وكل هذه المعاني الروحية لا تنافي وجود الأسباب المادية العادية. وقد تقدم شرح ذلك. الحديث الثالث: عَنْ عَائِشةَ رَضي الله عَنْهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشمسُ عَلَى عَهدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فَقَامَ فَصَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاس فَأطَالَ القِيَام، ثُمَّ رَكَعَ فَأطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأطَالَ القيَامَ وَهو دُونَ القِيَام الأوَّلِ، ثم رَكَعَ فَأطَالَ الرُّكوعَ وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُم سَجَدَ فَأطَالَ السُّجُودَ، ثم فَعَلَ في الركعَةِ الأخْرَى مِثْل مَا فَعَل في الركْعَةِ الأولى، ثُمَّ انصرَفَ وَقَدْ انجَلتِ الشَّمْسُ، فَخَطبَ الناسَ فَحَمِدَ الله وأثنَى عَليهِ ثم قالَ: «إن الشَّمس والقَمَر آيتانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ تنْخَسِفَانِ لِمَوتِ أحد. وَلاَ لِحَيَاتِهِ. فَإذَا رَأيتمْ ذلك فَادعُوا الله وَكبروا وَصَلُّوا وَتَصَدَّ قوا». ثم قال: «يَا أمةَ مُحمَّد والله مَا مِنْ أحَد أغَْيَرُ مِنَ الله سُبْحَانَهُ من أن يَزْنَي عَبْدُهُ أوْ تَزني أمَتُهُ. يَا أمةَ مُحَمد، وَالله لو تَعْلمُونَ مَا أعلم لضَحكْتُمْ قَليلاً وَلَبَكَيتم كثِيراً». وفي لفظ: فَاستكْمَلَ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأرْبَع سَجَدات. الغريب: أغير: يجوز فيه الرفع على أن (ما) تميمية، والنصب على جعلها حجازية. وهو الأولى. و(من) زائدة مؤكدة في الوجهين. وأغير أفعل تفضيل من الغيرة- بالفتح- وهى في الأصل، تغير يحصل من الحمية والأنفة، ونثبتها لله إثباتاً يليق بجلاله. المعنى الإجمالي: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فصلى بالناس فأطال القيام، بحيث قدر بقراءة سورة البقرة ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فقال: «سمع الله لمن حمده، رَبنا ولك الحمد» فقرأ قراءة طويلة دون القراءة الأولى. ثم ركع فأطال الركوع، وهو أخف من الركوع الأول ثم سمَّع وحمَّد، ثم سجد وأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثالثة مثل الأولى، حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، ثم انصرف من الصلاة، وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه. وحدث أن صادف ذلك اليوم الذي حصل فيه الخسوف موت ابنه إبراهيم فقال بعضهم: كسفت لموت إبراهيم، جرياً على عادتهم في الجاهلية من أنها لا تكسف إلا لموت عظيم أو حياة عظيم. أراد النبي صلى الله عليه وسلم من نصحه وإخلاصه في أداء رسالته، ونفع الخلق- أن يزيل ما علق بأذهانهم من هذه الخرافات، التي لا تستند لا إلى نقل صحيح، ولا عقل سليم. فقال في خطبته: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يجريهما الله تعالى بقدرته لِيخوفَ بهما عباده، ويذكرهم نعَمَه. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى تائبين منيبين، وادعوا، وصلوا، وكبروا، وتصد قوا. ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يفصل لهم شيئاً من معاصي الله الكبار، التي توجب غضبه وعقابه. ويقسم في هذه الموعظة- وهو الصادق المصدوق- يا أمة محمد، والله، ما من أحد أغير من الله سبحانه أن يزني عبده، أو تزني أمته. ثم بين أنهم لا يعلمون عن عذاب الله إلا قليلاً، ولو علموا ما علمه صلى الله عليه وسلم لأخذهم الخوف والفرق، ولضحكوا سروراً قليلا، وليبكوا واغتموا كثيراً. ربنا أجرنا من عذابك، وارحمنا برحمتك، التي وسعت كل شيء، ووالدينا، ومشايخنا، وأقاربنا، والمسلمين أجمعين، آمين. تنبيه: تلاحظ أن في صفة صلاة الكسوف تفصيلاً لا يوجد في الحديث الذي معنا، وقد أخذته من الرواية الأخرى عن عائشة الموجودة في الصحيحين أيضا لتكمل الفائدة. تنبيه آخر: وردت صلاة الكسوف على كيفيات متعددة. منها الأمر بالصلاة مجملا. ومنها ركعتان، ومنها أربع ركعات، ومنها ست ركعات، ومنها ثمان ركعات، ومنها عشر ركعات. وفي كل هذه الوجوه، لم يرد إلا أربع سجدات رويت هذه الأوجه المتعددة مع أن الخسوف لم يقع إلا مرة واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لذا رجح الأئمة الكبار والمحققون، حديث عائشة الذي معنا على غيره من الروايات وهو أربع ركعات، وأربع سجدات، وماعداها فقد ضعفه الأئمة أحمد والبخاري والشافعي، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. اختلاف العلماء: اختلف العلماء: هل لصلاة الكسوف خطبة مستحبة أو لا؟. فذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة إلى أنه ليس لها خطبة. وذهب الشافعي، وإسحاق، وكثير من أهل الحديث: إلى استحبابها لهذه الأحاديث. والأرجح، التفصيل. وهو أنه، إن احتيج إلى الخطبة وإلى موعظة الناس وتبيين أمر لهم استحبت كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. وان لم يكن ثَمَّ حاجة، فليس هناك إلا الدعاء، والاستغفار، والصلاة. ما يؤخذ من الحديث: 1- وجود خسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- مشروعية الصلاة، والجمهور على أنها سنة مؤكدة. 3- الإتيان بالصلاة على الوصف المذكور في هذا الحديث وقد فصلناها بالشرح مستمدين بعض التفصيلات من الرواية الأخرى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها. 4- مشروعية التطويل بقيامها، وركوعها، وسجودها. 5- كون كل ركعة أقل من التي قبلها، دفعا للضجر والسآَمة. 6- أن يكون ابتداء وقت الصلاة من الكسوف، وانتهاؤها بالتجلي. 7- مشروعية الخطبة إذا دعت الحاجة إليها. 8- ابتداء الخطبة بحمد الله، والثناء عليه، لأنه من الأدب. 9- بيان أن الشمس والقمر من آيات الله الكونية، الدالة على قدرته وحكمته. 10- كون الكسوف يحدث لتخويف العباد، وتحذيرهم عقاب الله تعالى. وقد قلنا: إن هذا لا ينافي الأسباب العادية. 11- إزالة ما علق بأذهان أهل الجاهلية من أن الكسوف والخسوف، أو انقضاض الكواكب، إنما هو لموت العظماء أو لحياتهم. 12- الأمر بالدعاء، والصلاة، والصدقة، عند حدوث الكسوف أو الخسوف. 13- أن فعل هذه العبادات، يقي من عذاب الله وعقابه. 14- تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الزنا، وأنه من الكبائر، التي يغار الله تعالى عند ارتكابها. 15- إثبات صفة الغيرة لله تعالى، إثباتا يليق بجلاله- بلا تعطيل ولا تأويل. ولا تشبيه. قال الصنعاني رحمه الله تعالى: إذا وردت صفة من صفات الله تعالى موهمة بمشابهة المخلوقين كورود لفظ اليد والعين ونحوهما، ومنه الغيرة فقد اختلف العلماء في تلك الصفة هل يؤمن بها مع القطع بأنه تعالى ليس كمثله شيء في صفاته ولا ذاته، ويوكل معرفة كيفيتها وكيفية تعلقها بالله تعالى إلى الله ونجريها على ما أجراه الله تعالى ورسوله من غير تأويل ولا تكييف؟ وهو مذهب سلف هذه الأمة، والتأويل طريقة المتأخرين، والحق أن الأولى بالمؤمن اتباع الطبقة الأولى، فإنه لا يحيط بالصفة وكيفيتها إلا من أحاط بكيفية ذات الموصوف، فكل صفاته يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل. اهـ بتصرف يسير. 16- شدة ما أعده الله من العذاب لأهل المعاصي، مما لا يعلمه الناس، ولو علموه لاشتد خوفهم وقلقهم فقد رجح ما يوجب الخوف على ما يوجب الرجاء، لما جبلت عليه النفوس من الميل والإخلاد إلى الشهوات، وهو مرض خطير، لابد أن يقابل بما يضاده من التحذير والتخويف. 17- أن الله سبحانه وتعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على علوم من الغيب، لا تحتمل الأمة علمها. الحديث الرابع: عن أبي مُوسى الأشْعَرِي رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشمس عَلَى زَمَانِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فزعاً يَخْشىَ أن تكون الساعَةُ، حَتى أتى المَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى بأطْوَلِ قيام، وَرُكُوع وسُجُوِدٍ، مَا رَأيتُهُ يَفْعَلهُ في صَلاَةٍ قَطُّ، ثم قال: «إنَّ هذهِ الآيات التي يُرْسِلها الله تَعَالى لا تَكون لموتِ أحد وَلا لحَيَاتِهِ، وَلكنَّ الله يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بهَا عِبَادَهُ، فَإذَا رَأيتم مِنْهَا شَيْئا فَافزعُوا إلى ذِكر الله وَدعَائِهِ واسْتِغْفَارهِ». الغريب: 1- أن تكون الساعة:- يجوز في الساعة الرفع، على أن تكون تامة، والنصب على أنها ناقضة. 2- فزعا: منصوب على الحال، ووجه فزعه أن تكون الساعة. 3- «فافزعوا» بفتح الزاى. قال في المجمل: فزعت، وافزعني أي لجأت وأغاثني. وقال المبرد في الكامل: الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة، يريد ون به الذعر. والآخر، الالتجاء والاستصراخ. المعنى الإجمالي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا حصل تغيُّرٌ في العوالم الكونية، من ريح شديدة، أو رَعْد قاصف، أو كسوف أو خسوف، حصل عنده خوف من عذاب الله تعالى أن يحل بهذه الأمة ما حل بالأمم السابقة ممن أهلك بالصواعق أو الريح أو الطوفان. ولذا لما حصل خسوف الشمس، قام فزعاً، لأن معرفته الكاملة بربه، أوجبت له أن يصير منه كثير الخوف وشديد المراقبة. فدخل المسجد، فصلى بالناس صلاة الكسوف، فأطال فيهم إطالة لم تعهد من قبلُ إظهاراً للتوبة والإنابة. فلما فرغ المصطفى من مناشدته ربه ومناجاته، توجه إلى الناس يعظهم، ويبين لهم أن هذه الآيات يرسلها الله عبرة لعباده، وتذكيراً وتخويفاً، ليبادروا إلى الدعاء، والاستغفار، والذكر، والصلاة. وتقدمت أحكام هذا الحديث بالذي قبله. قال ابن دقيق العيد: قوله: «فافزعوا» إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيِه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار وإشارة إلى أن الذنوب تسبب البلايا والعقوبات العاجلة والآجلة، إشارة إلى أن الاستغفار والتوبة سببان لمحو الذنوب، وسبب لزوال المخاوف. |