الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
بسم الله الرحمن الرحيم - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ الرَسُول تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا. - فيه: أَنَس، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: (أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا). إنما أقام الرسول تسعة عشر يومًا يقصر، لأنه كان محاصرًا فى حصار الطائف أو حرب هوازن، فجعل ابن عباس هذه المدة حدًا بين القصر والإتمام، لقوله: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا وإن زدنا أتممنا). قال المهلب: والفقهاء لا يتأولون هذا الحديث كما تأوله ابن عباس ويقولون: إنه كان صلى الله عليه وسلم فى هذه المدة التى ذكرها ابن عباس غير عازم على الاستقرار، لأنه كان ينتظر الفتح، ثم يرحل بعد ذلك، فظن ابن عباس أن التقصير لازم إلى تسعة عشر يومًا، ثم ما بعد ذلك حضر تتم فيه الصلاة، ولم يرع نيته فى ذلك. وقد روى جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. ذكره عبد الرزاق. وروى ابن عيينة عن ابن أبى نجيح أنه سأل سالم بن عبد الله كيف كان ابن عمر يصنع؟ قال: إذا أجمع المكث أتم، وإذا قال: اليوم وغدًا قصر الصلاة، وإن مكث عشرين ليلة. والعلماء مجمعون على هذا لا يختلفون فيه، وتأول الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة لا استيطانًا لها لئلا يكون رجوعًا فى الهجرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا: أما من نوى إقامة عشر ليال أنه يتم الصلاة، وهو قول له آخر خلاف تأويله للحديث، ولا أعلم أحدًا من أئمة الفتوى قال بحديث ابن عباس وجعل تسعة عشر يومًا حدًا للتقصير فهو مذهب له انفرد به، وقد ذكر ابن أبى شيبة عن حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن نبى الله أقام سبع عشرة يقصر الصلاة؛ قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة قصر الصلاة، ومن أقام أكثر من ذلك أتم، وإنما جاء هذا الحديث، والله أعلم، من الرواة، وروى عباد بن منصور، عن عكرمة تسع عشرة، كما روى البخارى، ولم يقل سبع عشرة أحد من الفقهاء أيضًا إلا الشافعى، فإنه قال: من أقام بدار الحرب خاصة سبع عشرة ليلة قصر. وسأذكره فى هذا الباب، إن شاء الله. وأما حديث أنس فروى عن على، وابن عباس أنه إذا نوى إقامة عشر ليال أتم الصلاة. وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة بعد هذا فى باب كم أقام النبى صلى الله عليه وسلم فى حجته. وأذكر فيه طرفًا من أقوالهم وحجتهم فى ذلك. وتأويل الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة عشرًا كانت بنية الرحيل، وكانت العوائق تمنعه من ذلك، فما كان على نية الرحيل فإنه يقصر فيه وإن أقام مدة طويلة بإجماع العلماء. وفى حديث ابن عباس من الفقه ما ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة وأحد قولى الشافعى: أنه من كان فى أرض العدو من المسلمين ونوى الإقامة مدة يتم المسافر فى مثلها الصلاة أنه يقصر الصلاة، لأنه لا يدرى متى يرحل. قال ابن القصار: والقول الثانى للشافعى الذى خالف فيه الفقهاء، قال: إن كان المقيمون بدار الحرب ينتظرون الرجوع كل يوم فإنه يجوز لهم أن يقصروا إلى سبعة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا، فإذا جاوزوا هذا المقدار أتموا، واحتج بأن الرسول أقام بهوازن هذه المدة يقصر، وقوله الأول الموافق للفقهاء أولى، لأن إقامة من كان بدار الحرب ليست بإقامة صحيحة، وإنما هى موقوفة على ما يتفق لهم من الفتح لأن أرض العدو ليست بدار إقامة للمسلمين. وقد روى جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يحارب ويقصر، وأقام أنس بنيسابور سنتين يقصر الصلاة، وفعله جماعة من الصحابة.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا. - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم آمَنَ مَا كُنَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. - وفيه: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِى بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد، لأنه عندهم فى سفر، إذ ليست مكة دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم يَنْوِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإقامة بمكة ولا بمنى. واختلف الفقهاء فى صلاة المكى بمنى، فقال مالك: يتم المكى بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات، وجعل أن هذه المواضع مخصوصة بذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولم يقل: يا أهل مكة أتموا، وهذا موضع بيان، وكذلك عمر بن الخطاب بعده قال لأهل مكة: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وممن روى عنه أن المكى يقصر بمنى: ابن عمر، وسالم، والقاسم، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق. وقالت طائفة: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات، لأنه ليس بينهما مسافة ما تقصر فيه الصلاة. روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، قالوا: وفى قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: أتموا صلاتكم، ما أغنى أن يقول ذلك بمنى. قال الطحاوى: ليس الحج موجبًا للقصر، لأن أهل منى وعرفات إذا كانوا حجاجًا أتموا، وليس هو متعلقًا بالموضع، وإنما هو متعلق بالسفر، وأهل مكة مقيمون هناك فلا يقصرون، ولما كان المعتمر لا يقصر لو خرج إلى منى كذلك الحاج. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث حارثة بن وهب، قال: (صلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط وآمنَ بمنى ركعتين). وحارثة كانت أمه تحت عمر بن الخطاب، فولدت له عبد الله، وكانت دار حارثة بمكة، ولو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال حارثة: وأتممنا نحن، أو قال لنا: أتموا، لأنه صلى الله عليه وسلم يلزمه البيان لأمته فثبت القصر بمنى لأهل مكة بالسنة. وأما إتمام الصلاة فى السفر، فإن العلماء والسلف اختلفوا فى ذلك، فذهبت طائفة إلى أن ذلك سنة، روى ذلك عن عائشة، وسعد بن أبى وقاص أنهما كانا يتمان فى السفر، ذكره عطاء بن أبى رباح عنهما، وعن حذيفة مثله، وروى مثله عن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن ابن الأسود، وعن سعيد بن المسيب، وأبى قلابة، وروى أبو مصعب عن مالك، قال: قصر الصلاة فى السفر سنة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وذهب الشافعى إلى أنه مخير غير أن الإتمام أفضل، وذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مخير غير أن الاستحباب القصر. وقال ابن القصار: وهذا اختيار الأبهرى، واختيارى. وذهبت طائفة إلى أن الواجب على المسافر ركعتان، روى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وهو قول الكوفيين، ومحمد بن سحنون، واختاره إسماعيل بن إسحاق من أصحاب مالك. واحتج الكوفيون عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين فى الحضر، والسفر... الحديث، وقد تقدم فى أول كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث، ونزيده هاهنا بيانًا وإيضاحًا على حسب ما يقتضيه هذا الباب، فنقول: إن الفرض قد يأتى لغير الحتم والإيجاب كما نقول: فرض القاضى النفقة، يعنى قدرها وبيَّنها، وقد قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2]، أى بيَّن لكم كيف تكفرون عنها. وقال الطبرى: يحتمل قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين فى السفر)، يعنى إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون فرضه أربعًا، فله ذلك. فإن قيل: فهل يوجد فرض بهذه الصفة يكون للمفروض عليه الخيار فى تركه إذا شاء، والعمل به إذا شاء؟. قيل: نعم، إنا وجدنا تأخر الحاج بمنىً فى اليوم الثانى من أيام التشريق، وتركه النفر فيه إلى اليوم الثالث، فإنه إن اختار المقام به إلى اليوم الثالث فعلى فرضه أقام، وإن نفر فى اليوم الثانى وتعجل فيه فعلى أداء فرضه نفر، وأى ذلك فعل كان صوابًا. وكذلك المسافر، ولو كان فرض المسافر الذى ليس له غيره الركعتين لم يكن له أن يجعلهما أربعًا بوجه من الوجوه، كما ليس للمقيم أن يجعل ظهره مثنى وصلاة الفجر أربعًا، وقد اتفق فقهاء الأمصار على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام، فهذا يدل أنه ليس فرضه ركعتين إلا على التخيير، وبان أن من صلى من المسافرين الظهر أربعًا ففرضه اختار، وأن من صلاها ركعتين فعلى تمام فرضه انصرف. وأما إتمام عثمان الصلاة بمنى فللعلماء فى ذلك أقوال، روى أيوب عن الزهرى، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا، لأن الأعراب كانوا كثروا فى ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربعًا. وقال ابن جريج: إن أعرابيًا ناداه فى منى، فقال: يا أمير المؤمنين، مازلت أصليها مُذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشى عثمان أن يظن جهالُ الناس أن الصلاة ركعتان. وروى معمر، عن الزهرى وجهًا آخر قال: إنما صلى عثمان أربعًا لأنه أزمع على المقام بعد الحاج. وروى عن عبد الله بن الحارث بن أبى ذباب، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب، قال: صلى بنا عثمان أربع ركعات، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إنى تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليصل أربعًا). وهذه الوجوه كلها ليست بشىء. قال الطحاوى: وذلك أن الأعراب كانوا بأحكام الصلاة أجهل فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتم بهم لتلك العلة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه بهم رءوف رحيم. قال غيره: ألا ترى أن الجمعة لما كان فرضها ركعتين لم يعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود، وقد يجوز أن صلاة الجمعة فى كل مكان ركعتان. وأما ما ذكر عنه أنه أزمع على المقام بعد الحج فليس بشىء، فإن المهاجرين فرض عليهم ترك المقام بمكة، وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلا على راحلته، ويسرع الخروج من مكة خشية أن يرجع فى هجرته التى هاجرها الله. وما ذكر أنه اتخذ أهلاً بمكة النبى صلى الله عليه وسلم كان فى غزواته وحجه وأسفاره كلها يسافر بأهله بعد أن يقرع بينهن، وكان أولى أن يتأول ذلك ويفعله، فلم يفعله وقصر الصلاة، وكذلك تأولوا فى إتمام عائشة أنها كانت أم المؤمنين، فحيث ما حلت فهو بيتها، وهذا فى الضعف مثل الأول، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أبًا للمؤمنين وهو أولى بهم من عائشة، ولم يتأول ذلك. والوجه الصحيح فى ذلك، والله أعلم، أن عثمان وعائشة إنما أتمَّا فى السفر لأنهما اعتقدا فى قصر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما خُير بين القصر والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، وقالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمرين قط إلا أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثمًا. فأخذت هى وعثمان فى أنفسهما بالشدة وتركا الرخصة، إذ كان ذلك مباحًا لهما فى حكم التخيير فيما أذن الله تعالى فيه، ويدل على ذلك إنكار ابن مسعود الإتمام على عثمان، ثم صلى خلفه وأتم، ثم كلم فى ذلك، فقال: الخلاف شر. ولو كان القصر فرضًا لم يخف على عثمان، ولم يجز له أن يتم، ولا أتم خلفه ابن مسعود، ولا جماعة الصحابة بالحضرة دون نكير، ولا يجوز على جماعة الصحابة أن يعلموا أن فرضهم ركعتان ويصلوها مع عثمان أربعًا، كما لا يجوز لو صلى بهم الظهر خمسًا والفجر ثلاثًا أن يتبعوه على ذلك. وإنما جاز لهم اتباعه والانقياد له لعلم جميعهم أنه فعل مباحًا جائزًا، وهذه حُجَّة قاطعة، وإنما قال ابن مسعود: الخلاف شر، لأنه رأى أن الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شر. وقد روى ابن أبى شيبة، عن ميمون بن مهران: أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة فى السفر، فقال: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعًا. وذكر عن أبى قلابة أنه قال: (إن صليت فى السفر ركعتين فالسنة، وإن صليت أربعًا فالسنة.
- فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلا مَنْ مَعَهُ الْهَدْىُ. وقال فى كتاب المغازى: بَاب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ. - فيه: عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَنُّه سأل السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ الْنَّمِرِ: مَا سَمِعْتَ فِى سُكْنَى مَكَّةَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (ثَلاثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ). وقال أحمد بن حنبل: قدم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة صبح رابعة من ذى الحجة، فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وهو فى ذلك كله يقصر الصلاة، ثم خرج إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن فلم يزل مسافرًا فى المناسك إلى أن تم حجه. فجعل أحمد ابن حنبل أربعة أيام يقصر فيها الصلاة إذا نوى إقامتها، وإن قام أكثر من ذلك فهو حضر يتم فيه الصلاة، واستدل بحديث ابن عباس هذا. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: هذا الحديث يدل أنه من أقام عشرين صلاة يقصر الصلاة، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى فى الرابع الظهر والعصر، ثم صلى فى الخامس والسادس والسابع خمس عشرة صلاة، ثم صلى الليلة الثامنة المغرب والعشاء والصبح، فذلك عشرون صلاة، ولم يتم، وهو حجة على ابن الماجشون، وسحنون فى قولهما أنه من أقام عشرين صلاة أنه يتم. وذهب مالك، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه من عزم على إقامة أربعة أيام بلياليها أنه يتم الصلاة ولا يقصر، وروى مثله عن عمر، وعثمان. قال ابن القصار: وحجة هذه المقالة حديث العلاء بن الحضرمى أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر بعد قضاء نسكه [ثلاثًا، ثم]. يصدر، وذلك أن الله حرم على المهاجرين الإقامة بمكة، الأرض التى هاجروا منها، ولا يستوطنوها، ثم أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجر المسافر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام. فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أيام سفر لا إقامة، إذ لو كان ما فوق الثلاث سفرًا لما منعهم من ذلك، فدل أنه إقامة، ووجب أن تكون الثلاث فصلا بين السفر والإقامة، ولا وجه لمن اعتبر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجته من حين دخوله مكة إلى خروجه إلى منى ولا إلى صدره إلى المدينة، لأن مكة ليست له بدار إقامة ولا لأحد من المهاجرين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل مسافرًا منذ خرج من المدينة وقصر بذى الحليفة إلى أن انصرف إلى المدينة، ولم ينو فى شىء من ذلك إقامة، وليس فى هذه المسألة اختلاف، سوى ما تقدم، يقتضى الباب ذكره، وذلك لأنه ذهب قوم إلى أنه إن نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، روى هذا عن ابن عمر، وهذا قول الكوفيين، والثورى. وذهب قوم إلى أنه إذا نوى إقامة اثنتى عشرة أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، هذا قول ابن عمر، أحد أقاويله، وأخذ به الأوزاعى، وذهب قوم أنه إذا عزم على مقام عشر ليال أتم الصلاة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وقد تقدم هذا القول فى حديث أنس فى أول أبواب التقصير. وروى عن ربيعة قول شاذ أنه من نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة. وحجة الليث ما رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن عبيد الله، عن عبد الله بن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم أقام حيث فتح مكة خمسة عشر يومًا يقصر الصلاة حتى سار إلى خيبر. وحجة الكوفيين ما رواه مجاهد، عن ابن عمر، وابن عباس، أنهما قالا: إذا قدمت بلدًا وأنت مسافر، وفى نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة، فأكمل الصلاة. ولا حجة لمن اعتبر اثنى عشر يومًا ولا لربيعة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتم واحد منهم فى هذا المقدار. وأصح الأقوال فى هذه المسألة قول مالك ومن وافقه، وبيان ذلك من حديث ابن عباس مع الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، أن مقام النبى صلى الله عليه وسلم بمكة فى حجته كان عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه. وذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبح رابعةٍ من ذى الحجة صبيحة يوم الأحد، صلى الصبح بذى طوى، واستهل ذو الحجة ذلك العام ليلة الخميس، فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس، ثم نهض يوم الخميس ضحوةً إلى منى، فأقام بها باقى نهاره وليلة الجمعة، ثم نهض يوم الجمعة إلى عرفات، فبقى بها نهاره، ودفع منها بعد غروب الشمس من ليلة السبت إلى المزدلفة، فأقام بها باقى ليلته، ثم نهض منها قبل طلوع الشمس من يوم السبت، وهو يوم الأضحى والنفر إلى منى، فرمى جمرة العقبة ضحوةً، ثم نهض إلى مكة ذلك اليوم، فطاف بالبيت قبل الظهر. ثم رجع فى يومه ذلك إلى منى فأقام بها باقى يوم السبت، ويوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم نهض بعد الظهر من يوم الثلاثاء، وهو آخر أيام التشريق إلى المحصب، فصلى به الظهر، وبات فيه ليلة الأربعاء، وفى تلك الليلة اعتمرت عائشة من التنعيم ليلاً، ثم طاف النبى صلى الله عليه وسلم طواف الوداع سَحَرًا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء، وهى صبيحة رابعة عشرة، فأقام عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه، ثم نهض إلى المدينة، وكان خروجه من المدينة إلى حجة الوداع يوم السبت لأربع بقين من ذى القعدة، وصلى الظهر بذى الحليفة، وأحرم بإثرها، وهذا كله مستنبط من قوله: (قدم النبى صلى الله عليه وسلم صبيحة أربع من ذى الحجة)، ومن الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، وفيه نزلت: (اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3].
وَسَمَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم السفر يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِىَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا. - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاثًا إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ). اختلف العلماء فى قدر المسافة التى يستباح فيها القصر فى الصلاة، فكان مالك يقول: يقصر فى مسيرة يوم وليلة، ثم رجع فقال: يقصر فى أربعة بُرُد، وهى ثمانية وأربعون ميلاً، كقول ابن عمر، وابن عباس، وبه قال الليث، والشافعى فى أحد أقواله، وهو قول أحمد، وإسحاق. وروى أشهب، عن مالك، فيمن خرج إلى ضيعته، وهى على رأس خمسة وأربعين ميلاً، قال: يقصر. وروى أبو زيد، عن ابن القاسم فيمن قصر فى ستة وثلاثين ميلاً، قال: لا يعيد. وقال ابن حبيب: يقصر فى أربعين ميلاً، وهى قريب من أربعة بُرُد. وقال الأوزاعى: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تامٍ، وبه نأخذ. وقالت طائفة: يقصر فى يومين، روى هذا عن ابن عمر، والحسن البصرى، والزهرى، وذكر مثله عن الشافعى. وقالت طائفة: لا يقصر إلا من سافر ثلاثة أيام، روى هذا عن ابن مسعود، وبه قال الثورى، والكوفيون. وقال الأوزاعى: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فى خمسة فراسخ، وذلك خمسة عشر ميلاً. وحُكى عمن لا يعتد بخلافه من أهل الظاهر أنه يجوز فى قليل السفر، وكثيره إذا جاوز البنيان ولو قصد إلى بُستانه، وحكوه عن على بن أبى طالب. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك، ومن وافقه حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرمة). فجعل لليوم والليلة حكمًا خلاف حكم الحضر، فعلمنا أنه الزمان الفاصل بين السفر يجوز فيه القصر، وبين السفر الذى لا يجوز فيه، قال: وهذا قول ابن عمر، وابن عباس. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا مع ذى محرم)، وقالوا: لما اختلفت الآثار والعلماء فى المسافة التى تقصر فيها الصلاة، وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين، واليقين ما لا تنازع فيه، وذلك ثلاثة أيام. قال ابن القصار: والجواب أن النبى صلى الله عليه وسلم قد ذكر اليوم والليلة، ونص عليه فهو أولى من دليل خبركم أن ما كان دون الثلاث فبخلافها، والدليل إذا اجتمع مع النص قُضى بالنص عليه. قال الأصيلى: والدليل على أن المسافر يقصر فى يوم وليلة قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184]، فما نقل الله المسافر من حال الصيام إلى حال الإفطار فى سفر يوم، كذلك يجب أن ينتقل من التمام إلى القصر فى ذلك. وقال غيره: وأما اختلاف الآثار فى يوم وليلة، وفى ثلاثة أيام، وقد روى فى يومين، فالمعنى الذى تأتلف عليه هذه الأخبار أنها كلها خرجت على جواب سائلين مختلفين، كأن سائلاً سأله صلى الله عليه وسلم : هل تسافر المرأة يومًا وليلة مع غير ذى محرم؟ فقال: لا، ثم سأله آخر عن مثل ذلك فى يومين، فقال: لا، ثم سأله آخر عن مثل ذلك فى ثلاث، فقال: لا، فروى عنه صلى الله عليه وسلم كلُّ واحد ما سمع وليس بتعارض ولا نسخ، لأن الأصل ألا تسافر المرأة أصلاً، ولا تخلو مع غير ذى محرم، لأن الداخلة عليها فى الليلة الواحدة كالداخلة عليها فى الثلاث، وهى علة المبيت والمغيب على المرأة فى ظلمة الليل، واستيلاء النوم على الرفقاء فيكون الشيطان ثالثهما، فقويت الذريعة وظهرت الخشية على ناقصات العقل والدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (لا يخلون رجل بامرأة ليست بذى محرم منه). وقال: (إنها صفية). واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر وأبى هريرة، فقالوا: لا يحل للمرأة أن تخرج إلى الحج مع غير ذى محرم، وجعلوا المحرم للمرأة سبيلاً من سبل الحج. وقال مالك وغيره: تخرج فى الرفقة المأمونة مع جماعة النساء، وإن لم تكن لها محرم. وقال المهلب: وقوله صلى الله عليه وسلم : (لا تسافر المرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى محرم)، مبنى على فرض الله اللازم للنساء من وجوب الحج عليهن. وفى قوله: (لا يحل لامرأة)، شاهد أنه إنما نهاها عن السفر الذى لا يلزمهن ولهن استحلاله وتركه فمنعهن صلى الله عليه وسلم من الأسفار المختارة إلا الضرورية الجماعية التى لا تعدم فيها المرافقة، ألا ترى اشتراط مالك خروجها للحج فى جماعة المرافقين بالغة الدين فى سفر الطاعة لله، واستشعارهم الخشية له، ولذلك سن عليه السلام الحج بأمير أو سلطان محافظ، وإمام معلم يحفظ الضيعة، ويضم القَاذَّة ويرد الشاذّة، ولا ينفرد أحد عن الجماعة، ولا تتفق الأعين كلها على الغفلة، ولا تجتمع على النوم فى وقت واحد، فلابد من وجود المراقبة من الجماعة، فضعف الخوف بحضور الكثرة، وسأزيد هذا المعنى بيانًا فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج، إن شاء الله. وما حكاه الأوزاعى، عن أنس، وقولُ أهل الظاهر فالجماعة على خلافه وفى بيان الحجة لمالك ما ينتظم الرد عليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تسافر امرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى حرمة منها). قد أثبت للسفر حرمة إذا كان يومًا وليلةً، فدل أن ما دونه بخلافه، وإذا لم يكن إلا حضر، أو سفر، ولم يكن لما دون اليوم والليلة حرمة، صح أنه فى معنى الحضر.
وَخَرَجَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لا، حَتَّى نَدْخُلَهَا. - وفيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: الصَّلاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاةُ الْحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. أجمع فقهاء الأمصار أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية التى يخرج منها، واختلفت الرواية عن مالك فى صفة ذلك، ففى المدونة وكتاب ابن عبد الحكم، عن مالك: لا حتى يبرز عن بيوت القرية، ثم لا يزال يقصر حتى يدنو منها راجعًا، كقول الجماعة، وروى ابن وهب عن مالك فى المبسوط أنه قال: إذا خرج المسافر من المصر الذى فيه أهله فلا أرى أن يقصر حتى يخرج من حد ما تجب فيه الجمعة، وذلك ثلاثة أميال. وروى ابن الماجشون ومطرف، عن مالك: أنه استحب ذلك، لأن الثلاثة أميال مع المصر كَفَرسَخ واحد، وإذا رجع قصر إلى حَدِّه ذلك، وإذا كانت قرية لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بيوتها المتصلة بها، ذكره ابن حبيب. واختار قوم من السلف تقصير الصلاة قبل الخروج من بيوت القرية، قال ابن المنذر: روينا عن الحارث بن أبى ربيعة أنه أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين فى منزله، ومنهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، وروينا معنى هذا القول عن عطاء ابن أبى رباح، وسليمان بن موسى. وشَذَّ مجاهد، فقال: إذا خرجت مسافرًا، فلا تقصر لو مكثت حتى الليل، ولا أعلم أحدًا وافقه عليه. قال المهلب: إنما يقصر الصلاة من خرج من موضع إذا نوى سفرًا يقصر الصلاة فى مثله على ما تقدم من مذاهب العلماء فى ذلك، لأن مشقة السفر لازمة له من حين خروجه من موضعه، لكن لا يتم إلا بالمبيت والشغل بأمر المعاش المتصل بمشقة السعى مع الاحتراس بالليل وغيره، وكذلك تبقى على الراجع المشقة حتى يحل عن نفسه بوصوله إلى منزله. ومن أجاز من التابعين تقصير الصلاة قبل الخروج من البيوت فقوله مردود بفعله صلى الله عليه وسلم حين أتم الظهر بالمدينة، ثم خرج فقصر العصر بذى الحليفة، وإنما لزم التقصير إذا خرج من بيوت القرية لا قبل ذلك، لأن السفر يحتاج إلى عمل ونية، وليس كالإقامة التى تصح بالنية دون العمل. وحديث أنس حجة لجماعة الفقهاء أهل المقالة الأولى، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أتم الظهر بالمدينة، وقصر العصر بذى الحليفة إنما فعل ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم كان متوجهًا إلى مكة، ذكره البخارى فى بعض طرق الحديث لا أنه كان سفره إلى ذى الحليفة فقط، وبين المدينة وذى الحليفة من ستة أميال إلى سبعة، فلا حجة لمن أجاز التقصير فى قليل السفر، ولمن خرج إلى بستانه، لأن الحجة فى السُّنَّة لا فيما خالفها، وإنما ترك على التقصير، وهو يرى الكوفة حتى يدخلها، لأنه كان فى حكم المسافر فى ذلك الوقت، فلو أراد أن يصلى حينئذ لصلى صلاة سفر، وكان له تأخير الصلاة إلى الكوفة إذا كان فى سعة من الوقت ليصليها صلاة حضر، فاختار ذلك أخذًا بالأفضل واحتياطًا للإتمام حين طمع به وأمكنه. وأما حديث عائشة، فقد تقدم القول فيه قبل هذا فلا معنى لتكريره، وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم الإتمام مثل فعل عائشة، وعثمان. حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو الحسن على بن بندار الفربرى، بمكة، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، حدثنا المحاملى، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبى رباح، عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقصر فى السفر ويتم، ويصوم ويفطر. قال الدارقطنى: هذا إسناد صحيح. قال الدارقطنى: وحدثنا أبو بكر النيسابورى، حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عمرة فى رمضان، فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت، وقصر وأتممت، فقال: (أحسنت يا عائشة). قال الدارقطنى: وعبد الرحمن قد أدرك عائشة، ودخل عليها وهو مراهق.
- فيه: ابن عُمَر، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ، يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَكَان ابن عُمَر يفعله. (وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ، أَوْ ثَلاثَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. يُقيم الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلا يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ). أجمعت الأمة على أن المغرب يصلى ثلاثًا فى السفر كما يصلى فى الحضر، وهذا يدل أن قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد فى صلاة الحضر)، ليس على عمومه فى الصلوات كلها، للإجماع أن المغرب ثلاثًا لا يزاد فيها فى حضر، ولا ينقص منها فى سفر، وكذلك الصبح ركعتان فى السفر والحضر. قال المهلب: ولم تقصر المغرب فى السفر عما كانت عليه فى صلاة الفريضة لأنها وتر صلاة النهار، ولم يزد فى الفجر لطول قراءتها، وقدر وى هذا عن عائشة، رضى الله عنها. وفى تقصير ابن عمر حين استُصرخ على صفية امرأته من الفقه: أن التقصير فى السفر المباح غير الحج والجهاد جائز على ما يذهب إليه جماعة الفقهاء، ورد لقول أهل الظاهر الذين لا يجيزون التقصير إلا فى سفر الحج والجهاد، وذكر أنه مذهب ابن مسعود. وابن عمر روى السنة فى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم وفهم عنه معناها، وأن ذلك جائز فى كل سفر مباح، ألا ترى قول ابن عمر: (هكذا رأيت النبى صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير فى السفر). وهذا عام فى كل سفر، فمن ادعى أن ذلك فى بعض الأسفار دون بعض فعليه الدليل، ويقال لهم: إن الله قرن بين أحوال المسافرين فى طلب الرزق، والمسافرين فى قتال العدو فى سقوط قيام الليل عنهم، فقال: (فتاب عليكم} إلى قوله: {وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله} [المزمل: 20]، فلما سوى بينهم تعالى فى سقوط قيام الليل وجبت التسوية بينهم فى استباحة رخصة التقصير فى السفر، وهذا دليل لازم. وفيه: دليل على تأكيد قيام الليل، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتركه فى السفر، فالحضر أولى بذلك.
- فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى عَلَى ناقته حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. - وفيه حديث: أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى التَّطَوُّعَ، وَهُوَ رَاكِبٌ فِى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنُّه كَانَ يُصَلِّى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، يُخْبِرُ أَنَّ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المهلب: هذه الأحاديث تخص قوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144، 150]، وتبين أن معناه فى المكتوبات، وما كان من النوافل فى الأرض، وتفسر قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] أن ذلك فى النافلة على الدابة. وقد روى عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت فى قول اليهود فى القبلة، وذهب جماعة الفقهاء إلى الأخذ بهذه الأحاديث، وأجازوا التنفل على الدابة فى السفر إلى غير القبلة، وممن روى ذلك عنه: علىّ، وابن الزبير، وأبو ذر، وابن عمر، وأنس، وبه قال طاوس، وعطاء، وإليه ذهب مالك، والثورى، والكوفيون، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، غير أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير. واختلفوا فى الصلاة على الدابة فى السفر الذى لا تقصر فى مثله الصلاة، فقال الفقهاء الذين تقدم ذكرهم: يصلى فى قصير السفر وطويله، غير مالك فإنه قال: لا يصلى أحد على دابته فى سفر لا تقصر فى مثله الصلاة. والحجة له أن الخبر إنما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلى على راحلته فى سفره إلى خيبر، وجائز قصر الصلاة من المدينة إلى خيبر، ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على دابته إلا فى سفر تقصر الصلاة فيه، كذلك رواه مالك عن عمرو بن يحيى، عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وأيضًا فإن ذلك رخصة فى السفر كالفطر والقصر، فينبغى أن تكون هذه الرخص كلها على طريقة واحدة، وأيضًا فإن القبلة آكد، لأن الصلاة تقصر فى السفر، ولا يعدل فيها عن القبلة مع القدرة، فلما كان فى السفر القصير لا يقصر، والقصر أضعف، كان بألا يجوز ترك القبلة أولى. وحجة أهل المقالة الأولى الآثار الواردة بذلك، ليس فيها تحديد سفر، ولا تخصيص مسافة، فوجب حملها على العموم فى كل سفر قصير أو طويل. ومن طريق النظر أن الله تعالى جعل التيمم رخصةً للمريض والمسافر، وقد أجمعت الأمة أن من كان خارج المصر على ميل، أو أقل ونيته العودة إلى منزله لا الشخوص إلى سفر، ولم يجد ماءً أنه يجوز له التيمم، ولا يقع عليه اسم مسافر، فكما جاز له التيمم فى هذا القدر جاز أن يتنفل على الدابة، ولا فرق بين ذلك قاله الطبرى، قال: ولا أعلم من خالف هذا القول من المتقدمين إلا مالك بن أنس.
- فيه ابن عُمَرَ، أَنّه كَانَ يُصَلِّى فِى السَّفَرِ عَلَى دابته أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سنة الصلاة على الدابة الإيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع، وروى أشهب عن مالك فى الذى يصلى على الدابة، أو المحمل لا يسجد بل يومئ، لأن ذلك من سنة الصلاة على الدابة. وقال ابن القاسم: يصلى فى المحمل متربعًا إن لم يشق عليه أن يثنى رجليه عند سجوده فليفعل ذلك. قال ابن حبيب: وإذا تنفل على الدابة، فلا ينحرف إلى جهة القبلة، وليتوجه لوجه دابته، وله إمساك عنانها وضربها وتحريك رجليه، إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت، ولا يسجد الراكب على قَرَبُوس سرجه، ولكن يومئ. واستحب ابن حنبل، وأبو ثور أن يفتتح الصلاة فى توجهه إلى القبلة، ثم لا يبالى حيث توجهت به. والحجة لهم حديث الجارود بن أبى سبرة، عن أنس بن مالك: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتنفل فى السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث توجهت ركابه. وليس فى حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة وجابر استقبال القبلة عند التكبير، وهى أصح من حديث الجارود. وحجة من لم ير استقبال القبلة عند التكبير، وهو قول الجمهور أنه كما تجوز له سائر صلاته إلى غير القبلة، وهو عالم بذلك كذلك يجوز له افتتاحها إلى غير القبلة. واختلف قول مالك فى التنفل فى السفينة إلى غير القبلة، فقال فى الواضحة: لا بأس به حيث ما توجهت به كالدابة، وفى المختصر: لا يتنفل فيها إلا إلى القبلة بخلاف الدابة. واختلف قوله أيضًا فى المريض الذى لا يقدر على الصلاة على الأرض إلا إيماءً، هل يصلى الفريضة على الدابة فى محمله؟ وفى المدونة أنه لا يصلى إلا بالأرض، وروى أشهب أنه يصلى على المحمل كما يصلى على الأرض، ويوجه إلى القبلة، وفى كتاب ابن عبد الحكم مثله.
- فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ على الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ فِى الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وروى ابن عُمَرَ وَجَابِر مثله. - وَقَالَ جَابِر: فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. أجمع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى أحد فريضةً على الدابة من غير عذر، وإنه لا يجوز له ترك القبلة إلا فى شدة الخوف، وفى النافلة فى السفر على الدابة، رخصةً من الله لعباده ورفقًا بهم. فثبت أن القبلة فرض من الفرائض فى الحضر والسفر، وفى السنن لمن تنفل على الأرض.
- فيه: أَنَس، أَنّه صَلِّى عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ بِعَيْنِ التَّمْرِ، مقدمه من الشام، فَقَال لَهُ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ. ولا فرق بين التنفل فى السفر على الحمار والبغل، والبعير، وجميع الدواب عند جماعة الفقهاء على ما تقدم من اختلافهم فى السفر الطويل والقصير، وروى عن أبى يوسف أنه أجاز أن يصلى فى المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد، عن أنس، أنه صلى على حمار فى أزقة المدينة يومئ إيماءً. وجماعة الفقهاء على خلافه.
- فيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فى السَّفَرِ، وَقَدْ قَالَ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. - وقال: صَحِبْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لا يَزِيدُ فِى السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ. قول ابن عمر: (لم أر النبى صلى الله عليه وسلم يسبح فى السفر) يريد لم أره يتطوع فى السفر قبل صلاة الفريضة ولا بعدها، يعنى فى الأرض، لأنه قد روى ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلى على راحلته فى السفر حيث توجهت به، وأنه كان يتهجد بالليل فى السفر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار عن ابن عمر، وقد جاء هذا المعنى بَيِّنًا عنه. ذكر البخارى فى (صلاة المغرب ثلاثًا فى السفر)، حديث ابن عمر حين استُصرِخ على صفية زوجته، وأنه جمع بين المغرب والعشاء، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى المغرب ثلاثًا، ثم يسلم، ثم قلَّمَا يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف الليل. وذكر مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت به. فبان أنه أراد بقوله لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح فى السفر، التطوع فى الأرض، المتصل بالفريضة، الذى حكمه حكمها فى استقبال القبلة والركوع والسجود، وكذلك كان ابن عمر يقول: لو تنفلت لأتممت، أى لو تنفلت التنفل الذى هو من جنس الفريضة لجعلته فى الفريضة ولم أقصرها. وممن كان لا يتنفل فى السفر قبل الصلاة، ولا بعدها سوى ابن عمر: على بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وليس قول ابن عمر: لم أر النبى صلى الله عليه وسلم يسبح فى السفر، بحجة على من رآه صلى الله عليه وسلم، لأن من نفى شيئًا فليس بشاهد، وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه تنفل فى السفر مع صلاة الفريضة، وهو قول عامة العلماء. قال الطبرى: يحتمل أن يكون تركُه صلى الله عليه وسلم التنفل فى السفر فى حديث ابن عمر تحريًا منه صلى الله عليه وسلم إعلام أمته أنهم فى أسفارهم بالخيار فى التنفل بالسنن المؤكدة وتركها، وقد بيّن ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا جمع فى السفر صلى المغرب، ثم يدعو بعَشَائه، فيتعشَّى، ثم يرتحل، وإذا جاز الشغل بالعَشَاء بعد دخول وقت العِشَاء وبعد الفراغ من صلاة المغرب، فالشغل بالصلاة أحرى أن يجوز، وسأذكر ذلك فى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
وَرَكَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى السَّفَرِ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. - فيه: ابْنِ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِى بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. - وفيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. قد تقدم فى الباب قبل هذا من لم بتطوع فى السفر قبل الفريضة، ولا بعدها، ونذكر فى هذا الباب من تطوع فيه. روى الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى سبرة، عن البراء بن عازب، قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة سفرة، فما رأيته ترك الركعتين قبل الظهر. وأما صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى يوم الفتح فإنه صلاها فى بيته بالأرض على غير راحلته فدل ذلك على جواز التنفل فى السفر بالأرض، لأنه لم تكن تلك صلاة الضحى، لقول ابن أبى ليلى: ما أخبرنا أحد أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الضحى. فإنه قد صلاها بالأرض وإلى القبلة فى السفر بخلاف قول ابن عمر، وكذلك صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتى الفجر فى السفر وتنفله على الراحلة بالليل والنهار فيه دليل على جواز التنفل على الأرض، لأنه لما جاز له التنفل على الراحلة كان فى الأرض أجوز، وقد قال الحسن البصرى: كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يسافرون ويتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وهو قول جماعة العلماء. قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر، وعلى، وابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وأنس، وأبى ذر، وجماعة من التابعين يكثر عددهم، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو الصحيح، لأنه ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل فى السفر من غير وجه وليس قول ابن أبى ليلى بحُجة تسقط صلاة الضحى، لأن أكثر الأحاديث يرويها واحد عن النبى صلى الله عليه وسلم يُلجأ إليه فيها، وتصير سنة معمولاً بها، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مرة اكتفت الأمة بذلك، فكيف وقد روى أبو هريرة، وأبو الدرداء، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أوصاهما بثلاث، منها ركعتا الضحى.
- فيه: ابن عُمَر، كَانَ الرسُول صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ. - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِى السَّفَرِ. اختلف العلماء فى جمع المسافر بين الصلاتين، فذهب جمهور العلماء إلى أن المسافر يجوز له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن زيد، وأبى موسى الأشعرى، وابن عمر، وابن عباس، وأسامة ابن زيد، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الحج للمسافر إلا إذا جدَّ به السير، وهو قول مالك فى المدونة، وقول الليث، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. وبحديث ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير. وكرهت طائفة للمسافر الجمع إلا بعرفة والمزدلفة، هذا قول النخعى، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بأن مواقيت الصلاة قد صحت فلا تترك لأخبار الآحاد. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن أوقات السفر لا تعترض أوقات الحضر، وقد روى جمعُه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين فى السفر من طريق تجرى مجرى الاستفاضة، منها حديث ابن عمر، وابن عباس، وحديث معاذ، وقد اتفقنا على جواز جمع أهل مكة وعرفة بعرفة، والمزدلفة، وهم مقيمون، فكذلك يجوز أن يجمعوا بينهما إذا سافروا. وقال الطبرى: قد تظاهرت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع بين الصلاتين فى السفر فظاهرها أنه كان يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فهل بينك وبين من أنكر الجمع بعرفة والمزدلفة، وأجازه فى السفر بالأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع فى السفر: فرقٌ، قالوا: ولو لم يأت عنه أنه جمع إلا بعرفة والمزدلفة فقط لكان ذلك دليلاً على جواز الجمع للمسافر. وروى مالك، عن ابن شهاب، قال: سألت سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر فى السفر؟ قال: نعم، ألا ترى إلى صلاة الناس بعرفة. وفى حديث أنس جواز الجمع للمسافر من غير أن يجدّ به السير كما قال جمهور العلماء، وكلا الفعلين قد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، جمع حين جَدَّ به السير، وجمع دون ذلك، وليس ذلك بتعارض، بل كل واحد حكى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى، وكُل سُنَّة. وقد قال ابن حبيب من أصحاب مالك: يجوز الجمع للمسافر جَدَّ به السير، أو لم يجدّ إلا لقطع السفر، وإن لم يَخَفْ شيئًا، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ بن الفرج. وترجم لحديث ابن عمر، وأنس باب: هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وذكر فيه قول سالم: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ، يُقِيمُ الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ... الحديث. قوله: (يقيم المغرب ثم يقيم العشاء)، يحتمل أن يكون معناه بما تقام به الصلوات فى أوقاتها من الأذان والإقامة، ويحتمل أن يريد الإقامة وحدها على ما جاء فى الجمع بعرفة والمزدلفة من الاختلاف فى إقامتها، وقال ابن المنذر: يؤذن ويقيم، فإن أقام ولم يؤذن أجزأَهُ، ولو ترك الأذان والإقامة لم يكن عليه إعادة الصلاة، وإن كان مسيئًا بتركه ذلك، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى أبواب الأذان قبل هذا، فأغنى عن إعادته.
- فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ، وَإِذَا زَاغَتْ، صَلَّى الظُّهْرَ، وَرَكِبَ. أجمع العلماء أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، فإنه يؤخر الظهر إلى العصر، كُل على أصله من القول بالاشتراك، أو يقدم، واختلفوا فى وقت جمع المسافر بين الصلاتين، فذهبت طائفة إلى أنه يجمع بينهما فى وقت إحداهما، هذا قول عطاء بن أبى رباح، وسالم، وجمهور علماء المدينة: أبى الزناد وربيعة وغيرهم، وحكى أبو الفرج عن مالك مثله، وبه قال الشافعى، وإسحاق، قالوا: إن شاء جمع بينهما فى وقت الأولى، وإن شاء جمع فى وقت الآخرة. وقالت طائفة: إذا أراد المسافر الجمع أخرَّ الظهر وعجلَّ العصر وأخر المغرب، وعجل العشاء، وروى هذا عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وهو قول مالك فى المزنية، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وقال: وجه الجمع أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر، ثم ينزل فيجمع بينهما ويؤخر المغرب كذلك، وإن قدَّم فأرجو ألا يكون به بأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى الظهر فى آخر وقتها، ثم يمكث قليلاً، ثم يصلى العصر فى أول وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين فى وقت إحداهما إلا بعرفة والمزدلفة. وحجة أهل المقالة نَص ودليلٌ، أما الدليل فإن معنى حديث أنس عندهم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس صلى الظهر، ثم ركب، أو صلى الظهر والعصر ثم ركب، لأنه إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس وعلى ذلك تأولوا حديث ابن عباس الذى فى الباب قبل هذا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، أن ذلك كان إذا زاغت الشمس. وأما النص كحديث معاذ ذكره أبو داود من حديث الليث: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر. وأما من قال: إن الجمع لا يكون إلا فى آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، فلم يؤخر النبى صلى الله عليه وسلم الجمع إلى وقت العصر إلا إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس خاصة، وأما إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس فإنه كان يجمع فى أول وقت الظهر، ولا يؤخر الجمع إلى العصر، فقولهم خلاف الحديث، وكذلك قول الكوفيين خلاف الآثار، وأثبتها فى ذلك حديث معاذ: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى غزوة تبوك، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ترحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فكأنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما مرة فى وقت الظهر، ومرة فى وقت العصر، والمغرب والعشاء، مرة فى وقت المغرب، ومرة فى وقت العشاء، بخلاف قول الكوفيين. وكذلك قال أنس: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع. مخالف لقولهم أنهم لا يجيزون صلاة الظهر فى وقت العصر فى الجمع بين الصلوات. وحجة أخرى من طريق النظر، لو كان كما قالوا لكان ذلك أشد حرجًا وضيقًا من الإتيان بكل صلاة فى وقتها، لأن وقت كل صلاة واسع، ومراعاته أمكن من مراعاة طرفى الوقتين، ولو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والفجر. ولَمَّا أجمع العلماء أن الجمع بينهما لا يجوز عُلم أن المعنى فى الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء أيضًا، وردت به السنة للرخصة فى اشتراك وقتيهما، فإذا صليت كل صلاة فى وقتها فلا يسمى جمعًا. واحتج أبو الفرج المالكى بما ذكره عن مالك أن له أن يجمع بينهما فى وقت إحداهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدّم العصر إلى الظهر بعرفة، وأخر المغرب إلى العشاء بالمزدلفة، وقال: هذا أصل هذا الباب، لأن النبى صلى الله عليه وسلم سافر فقصر وجمع بينهما، والجمع للمسافر أيسر خطبًا من التقصير.
- فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ [الشَّمْسُ] قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ. وقد تقدم فى الباب قبل هذا اختلافهم فى وقت الجمع بين الظهر والعصر، فأغنى عن إعادته، وليس فى حديث أنس تقديم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس، وذلك محفوظ فى حديث معاذ، ذكره أبو داود، قال: حدثنا يزيد بن خالد، حدثنا المفضل بن فضالة، والليث، عن هشام بن سعد، عن أبى الزبير، عن أبى الطفيل، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فجاء فى هذا الحديث ما يقطع الالتباس فى أن للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر إذا واغت الشمس، نازلاً كان أو سائرًا، جَدَّ به السير أو لم يجدَّ، على خلاف ما تأوله أبو حنيفة، وهى حجة على من أجاز الجمع، وإن لم يجد به السير، وقد تقدم ذلك.
- فيه: عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ....) الحديث. - وفيه: أَنَس، قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن فَرَسٍ، فَخُدِشَ- أَوْ فَجُحِشَ- شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا قُعُودًا... الحديث. - وفيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مَبْسُورًا، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: (إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ). وترجم له: (باب صَلاةِ الْقَاعِدِ بِالإيماءِ). أما حديث عائشة ففيه أنه من لم يقدر على صلاة الفريضة لِعِلَّةٍ نزلت به، فإن فرضَهُ الجلوسُ، ألا ترى قولها: (وهو شَاكٍ)، وكذلك فى حديث أنس أنه سَقَطَ صلى الله عليه وسلم من الفرس فَخُدِشَ، أو فَجُحِشَ، شقه فصلى جالسًا. فأراد البخارى أن يدل أن الفريضة لا يصليها أحد جالسًا إلا مَنْ شَكَا ما يمنعُه القيام. والعلماء مجمعون أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلى الفريضة جالسًا، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به اختلافهم فى إمامة القاعد، فأغنى عن إعادته. وأما حديث عمران فإنما ورد فى صلاة النافلة، لأن المصلى فرضه جالسًا لا يخلو أن يكون مطيقًا على القيام أو عاجزًا عنه، فإن كان مطيقًا وصلى جالسًا فلا تجزئه صلاته عند الجميع، وعليه إعادتها فكيف يكون له نصف فضل مصلى فإذا عجز عن القيام فقد سقط عنه فرض القيام وانتقل فرضه إلى الجلوس، فإذا صلى جالسًا فليس المصلى قائمًا أفضل منه. وأما قوله: (من صلى بإيماء فله نصف أجر القاعد) فلا يصح معناه عند العلماء، لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء وإنما دخل الوهم على ناقل هذا الحديث فأدخل معنى الفرض فى لفظ النافلة، ألا ترى قوله: (كان مبسورًا) وهذا يدل على أنه لم يكن يقدر على أكثر مما أدى به فرضه وهذه صفة صلاة الفرض، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشىء: لك نصف أجر القادر عليه، بل الآثار الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره، فإنه يكتب له أجر عمله، وهو صحيح، ورواية عبد الوارث وروح بن عبادة، عن حسين المعلم لحديث عمران هذا تدفعه الأصول، والذى يصح فيه رواية إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم على ما يأتى فى الباب بعد هذا، وهو فى صلاة الفريضة. وقد غلط النسائى فى حديث عمران بن حصين وصحفه وترجم له باب صلاة النائم، فظن أن قوله صلى الله عليه وسلم، ومن صلى بإيماء إنما هو ومن صلى نائمًا والغلط فيه ظاهر، لأنه قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن للمصلى إذا غلبه النوم أن يقطع الصلاة، ثم بين صلى الله عليه وسلم معنى ذلك، قال: (لعله يستغفر فيسب نفسه) فكيف يأمره بقطع الصلاة وهى مباحة له، وله عليها: نصف أجر القاعد. والصلاة لها ثلاثة أحوال: أولها القيام، فإن عجز عنه فالقعود، ثم إن عجز عن القعود فالإيماء، وليس النوم من أحوال الصلاة.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىِّ،- عليه السلام-، عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. هذا الحديث فى صلاة الفريضة، والعلماء مجمعون أنه يصليها كما يقدر حتى ينتهى به الأمر إلى الإيماء على ظهره أو على جنبه كيفما تيسر عليه، فإن صلى على جنبه كان وجهه إلى القبلة على حسب دفن الميت، وإن صلى على ظهره كانت رجلاه فى قبلته ويومئ برأسه إيماء. ومساق إبراهيم بن طهمان لهذا الحديث، ولم يذكر فيه: فله نصف أجر القائم، يدل أنه فى صلاة الفرض، ويدل أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة، ثم كذلك القعود، فإذا لم يقدر على القعود انتقل فرضه إلى الإيماء على جنب أو كيف تهيًا له، حتى يسقط عنه ذلك عند عدم القدرة فيصير إلى حالة الإغماء لا يلزمه شىء. وحديث عمران هذا تعضده الأصول ولا يختلف الفقهاء فى معناه وهو أصح معنى من حديث روح بن عبادة وعبد الوارث عن حسين.
َوَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا وَرَكْعَتَيْنِ قَائِمًا - فيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى صَلاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ. هذه الترجمة فى صلاة الفريضة وأما هذا الحديث فهو فى النافلة، ووجه استنباط البخارى منه حكم الفريضة هو أنه لما جاز فى النافلة القعود لغير علة مانعة من القيام، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم فيها قبل الركوع، كانت الفريضة التى لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على القيام أولى أن يلزم القيام فيها إذا ارتفعت العلة المانعة منه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال ابن القاسم فى المريض يصلى مضطجعًا أو قاعدًا ثم يخف عنه المرض فيجد قوة: أنه يقوم فيما بقى من صلاته، ويبنى على ما مضى منها، وهو قول زفر والشافعى. وقال أبو حنفية، وأبو يوسف، ومحمد: إن صلى ركعة مضطجعًا ثم صح: أنه يستقبل الصلاة ولو كان قاعدًا يركع ويسجد، بنى فى قول أبى حنيفة، ولم يبن فى قول محمد بن الحسن. وقال ابن القصار: الدليل على أنه يبنى أن للمصلى ثلاثة أحوال، أولها: القيام مع القدرة، وثانيها: القعود إن عجز عن القيام، وثالثها: الإيماء إن عجز عن القعود، فقدرته على القعود بعد الإيماء يوجب عليه البناء، فيجب أن تكون قدرته على القيام توجب عليه البناء، لأنه أصل كالقعود. فإن قيل: الفصل بين المومئ والقاعد أن القاعد يقدر على الركوع والسجود، والمومئ لا يقدر عليه، والقاعد معه بدل القيام، والمومئ لا بدل معه منه. قيل: صلاته بالإيماء صحيحة كقدرته على القيام والقعود فقد استوت أحواله، فإذا كان عجزه عن فرض لا يبطل الفرض الآخر ويبنى معه، فقدرته على فرض لا تبطل الفرض الآخر ويبنى معه. فإن قالوا: قد جوزنا معكم إمامة القاعد، ومنعنا إمامة المومئ فثبت الفرق بينهما، لأن القاعد بدل القيام والقعود جميعًا، وقد صح عقده لتكبيرة الإحرام كما تصح فى قيامه وقعوده، وأما التفرقة بينهما فى الإمامة فليس إذا أبطلنا حكم المأموم لعلة فى الإمام، وجب أن تبطل صلاة الإمام، وصلاة المومئ فى نفسه صحيحة، وإن لم يصح الائتمام به، كصلاة المرأة هى صحيحة وإن لم يصح الائتمام بها، والأمى بالقارئ. وكذلك اختلفوا فيمن افتتح الصلاة قائمًا وصلى ركعة، ثم عجز عن القيام وصار إلى حال الإيماء، فعند مالك أنه يبنى عليها قاعدًا وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى. وقال أبو يوسف، ومحمد: تبطل صلاته إلا أن يتمادى قائمًا، والدلائل المتقدمة تلزمه، لأن طرءان العجز بعد القدرة كطرءان القدرة بعد العجز، وأن العجز عن الركن لا يبطل حكم الركن المقدور عليه كما أن القدرة إذا طرأت لم تبطل حكم ما مضى. واختلفوا فى النافلة يفتتحها قاعدًا، هل يجوز له أن يركع قائمًا؟ قال الطحاوى: فكره ذلك قوم، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق العقيلى، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا. وخالفهم آخرون فأجازوا لمن افتتح النافلة قاعدًا أن يركع قائمًا واحتجوا بحديث عائشة المذكور فى هذا الباب، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، وهو قياس قول مالك، وقاله أشهب. وقال الطحاوى: هذا الحديث أولى من حديث ابن شقيق، عن عائشة، لأن فى هذا الحديث أنه كان يركع قائمًا بعدما افتتح الصلاة قاعدًا، وهو نص فى موضع الخلاف، وتماديه على الركوع فى حديث ابن شقيق حتى يركع قاعدًا لا يدل أنه ليس له أن يقوم فيركع قائمًا، وقيامه من قعوده حتى يركع قائمًا يدل أن له أن يركع قائمًا بعد ما افتتح قاعدًا، وهو حكم زائد، والزيادة يجب الأخذ بها، فلذلك جعلناه أولى من حديث ابن شقيق. وقال مالك: من افتتح النافلة قائمًا ثم شاء الجلوس فله ذلك. وخالفه أشهب فقال: إذا أحرم قائمًا فى نافلة فلا يجلس لغير عذر، وقد لزمه تمامها بما نوى فيها من القيام، فإن فعل أعاد إلا أن يغلب فلا قضاء عليه.
وَقَوْلِهِ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] أى أسهر نافلة لك - فيه: ابْنَ عَبَّاس قَالَ: كَانَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ). التهجد عند العرب: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل، والهجود أيضًا النوم، يقال تهجد: إذا سهر، وهجد: إذا نام. وقوله: (نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] يعنى فضلا لك عن فرائضك. واختلف فى المعنى الذى من أجله خص بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: إنما خص بذلك لأنها كانت عليه فريضة ولغيره تطوع، فقال: أقمها نافلة لك: عن ابن عباس. وقال مجاهد: إنما قيل له ذلك لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئًا من الذنوب، لأن الله كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان له نافلة فضل وزيادة، فأما غيره فهو كفارة له وليس له نافلة. وقال الطبرى: وقول ابن عباس أولى بالصواب، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد كان خصه الله بما فرضه عليه من قيام الليل دون سائر أمته، ولا معنى لقول مجاهد، لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان أشد استغفارًا لربه بعد نزول قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وذلك أن هذه السورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية وأنزل عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] عام قبض، وقيل له فيها) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] فكان يعد استغفاره فى المجلس الواحد مائة مرة، ومعلوم أن الله تعالى، لم يأمره أن يستغفره إلا بما يغفر له باستغفاره فبان فساد قول مجاهد. وقال قتادة نافلة لك: تطوعًا وفضيلة. وفى حديث ابن عباس تهجده صلى الله عليه وسلم وأنه كان يدعو عند قيامه ويخلص الثناء على الله بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده وفيه الأسوة الحسنة. وقوله: (أنت قيم السماوات والأرض) فيه ثلاث لغات يقال: قيام وقيوم وقيم. قال مجاهد: القيوم القائم على كل شىء وكذلك قال أبو عبيد. وقوله: (أنت نور السموات والأرض) أى بنورك يهتدى من فى السماوات ومن فى الأرض. وقوله: (أنت الحق) فالحق اسم من أسمائه وصفة ومن صفاته. (وقولك الحق) يعنى قولك الصدق والعدل. (ووعدك حق) يعنى لا تخلف الميعاد وتجزى الذين أساءوا بما عملوا إلا ما تجاوز عنه، وتجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وقوله: (ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، والإقرار بالجنة والنار، والإقرار بالأنبياء عليهم السلام. وقوله: (لك أسلمت) معناه: انقدت لحكمك وسلمت ورضيت. وقوله: (وبك آمنت) يعنى صدقت بك وبما أنزلت، والإيمان فى اللغة: التصديق. (وعليك توكلت) تبرأ إليه من الحول والقوة وصرف أموره إليه. قال الفراء: الوكيل: الكافى. وقوله: (إليك أنبت) أى أطعت أمرك، والمنيب المقبل بقلبه إلى الله (وبك خاصمت) يقول: بما آتيتنى من البراهين احتججت. (وإليك حاكمت) يعنى إليك احتكمت مع كل من أبى قبول الحق والإيمان، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عند القتال: (اللهم أنزل الحق) ويستنصر. وقوله: (اغفر لى ما قدمت، وأخرت، وأسررت، وأعلنت) أمر الأنبياء وإن كانوا قد غفر لهم أن يستغفروا الله ويدعوا الله، ويرغبوا إليه، ويرهبوا منه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنى أستغفرك من عمدى، وخطئى، وجهلى، وظلمى، وكل ذلك عندى) يقر على نفسه بالتقصير، وكان يقول فى سجوده: (اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من الذنوب كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه، أنهم يجتهدون فى الأعمال لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه، فأمتهم أحرى بذلك. قاله الداوودى. قال المهلب: وقوله: (أنت المقدم، وأنت المؤخر) يعنى أنه قُدّم فى البعث إلى الناس على غيره صلى الله عليه وسلم، بقوله: (نحن الآخرون السابقون) ثم قدمه عليهم يوم القيامة بما فضله به على سائر الأنبياء، فسبق بذلك الرسل.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ كَانَ الرَّجُلُ مَنا فِى زمن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُ فِى النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِى فَذَهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِىَ مَطْوِيَّةٌ كَطَىِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِى: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ)، فَكَانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلا. قال المهلب: إنما فسر الرسول هذه الرؤيا فى قيام الليل، والله أعلم، من أجل قول الملك الآخر: لم ترع، أى لم تعرض عليك لأنك مستحقها، إنما ذُكِّرْتَ بها، ثم نظر رسول الله فى أحوال عبد الله فلم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، وعلم مبيته فى المسجد فعبر بذلك، لأنه منبه على قيام الليل فيه بالقرآن، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى الذى علمه القرآن ونام عنه بالليل تشدخ رأسه إلى يوم القيامة فى رؤياه صلى الله عليه وسلم. وفيه: أن قيام الليل ينجى من النار. وروى سنيد: حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قالت أم سليمان لسليمان: يا بنى لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة). وذكر الطبرى، قال: حدثنا أحمد بن بشير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، فمن رأى ما يكره فليقم فليصل). فيه: تمنى الخير والعلم والحرص عليه، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وتفسير النبى لها من العلم الذى يجب الرغبة فيه.
- فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرَسُولَ كَانَ يُصَلِّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ؛ الحديث. أما طول سجود النبى صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل فذلك، والله أعلم لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الله، وذلك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إلى الله تعالى، وهو الذى أبى إبليس منه فاستحق بذلك اللعنة إلى يوم الدين والخلود فى النار أبدًا، فكان صلى الله عليه وسلم يطول فى السجود فى خلوته ومناجاته لله شكرًا على ما أنعم به عليه، وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفيه: الأسوة الحسنة لمن لا يعلم ما يفعل به أن يمتثل فعله صلى الله عليه وسلم فى صلاته بالليل وجميع أفعاله ويلجأ إلى الله فى سؤال العفو والمغفرة، فهو الميسر لذلك عز وجهه، وكان السلف يفعلون ذلك، قال أبو إسحاق: ما رأيت أحدًا أعظم سجدة من ابن الزبير. وقال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره، وما تحسبه إلا جرم حائط.
- فيه: جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. - وَقَالَ جُنْدَب: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ فَنَزَلَتْ: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 1، 5]. قال المؤلف: روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه من كان له حظ من العبادة ومنعه الله منها بمرض، فإن الله عز وجل يتفضل عليه بهبة ثوابها. وروى أبو موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد، أو سافر يكتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)، ذكره البخارى فى كتاب الجهاد. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من عبد يكون له صلاة يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة). قال المهلب: لما لم يقم النبى صلى الله عليه وسلم وقت شكواه، ولم تسمعه المرأة يصلى حينئذ ظنت هذا الظن والقصة واحدة رواها جندب. وقد روى: أن خديجة قالت للنبى صلى الله عليه وسلم حين أبطأ عنه الوحى: إن ربك قد قلاك، فنزلت: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 1، 5]، فأعطاه الله ألف قصر فى الجنة من لؤلؤ ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له. ذكره بقى بن مخلد فى التفسير. وقد قيل فى هذا الحديث: من لم يرزء فى جسمه فليظن أن الله قد قلاه. لكن روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحزن أحدكم ألا يرانى فى منامه، إذا كان طالبًا للعلم، فله فى ذلك العوض).
|